عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ثرثرة فوق أرصفة بيروت!

الغربة الأولى 3

ثرثرة فوق أرصفة بيروت!

تركت أم عدنان طبَّارة على شفتيها الدقيقتين ابتسامة متكلفة، وجدت أنَّها ضرورية عند استقبالها الضيوف.



قصيرة ُالقامةِ، ترامَى بِها العُمْرُ، ولمَّ تَزَلْ تَتَحرَّشُ بالكمال، جسد نحيف، مسكوبٌ سبكاً، عينان سوداوان واسعتان، مستعصيتانِ عن الوصفِ، يَندَلِقُ منهما نورٌ غريبٌ، يرسمهما كِحْلٌ أسود، يدور فوق الجفنين، وراءهما معنى إمرأة منعَّمة، حاجبان كأنَّهما خُطَّا بقلم فحم، تلفُّ شعرها، الذي تطلُّ منهُ خصلات بيضاء، جدائل تجمعها في قرص رأسها، في فمها يدور لسانٌ يُبَيِّنُ منه عقل وافرٌ وجواب حاضر.

أومأت، جلست، مدّت بَصَرها تملأ عينيها من وجهي، وتُرسلان الأسئلة القصيرة، أرضيت فضولها، وأبديتُ إعجابي بالشقة الوسيعة في بنايتها المعروضة للإيجار، وكانت تتألف من  غرفتي نوم وردهة استقبال، وغرفة طعام، ومطبخ حديث، ومستلزمات أخرى، ثم رغبتي بالسكن فيها مع عائلتي طوال مدة بقائي في لبنان. كان فنجان القهوة، يرقص رقصاً بين أصابع أم عدنان الرفيعة، وهي توافق، وتسحب من ملف أمامها "عقد الإيجار".

وبناية أم عدنان طبَّارة، في شارع "مدام كوري" في منطقة "قريطم". المنطقة التي عُرفت منذ زمن انها مسكناً للأجانب، فقد أسست فيها "بعثة الثقافة الفرنسية" La Mission Culturelle Française  "ليسيه لاييك" (أي العلمانية)، وأقامت شريحة كبيرة من الجالية الفرنسية في لبنان في الأبنية المحيطة بالمدرسة...  و سكنها من الجالية الأمريكية مؤسسو " الكلية الأمريكية للبنات" التي عرفت باسم "كلية بيروت الجامعية"، ليتغير اسمها مرة ثالثة إلى  "الجامعة اللبنانية الأميركية"، كما وقع في هواها عدد من الأدباء، والكتاب، والسياسيين.

وموقع "قريطم" الجغرافى بديع، فهي تطل على "شارع الحمرا" من ناحية و"الروشة، و" رأس بيروت الفوقا " وهى  المنطقة العليا من رأس بيروت الغربية.

و بناية طبارة، الى ذلك كله، على رمية حجر من قصر نجيب صالحة، رجل الأعمال، والنائب في البرلمان اللبناني عن دائرة المتن الجنوبي، قضاء بعبدا، ووزير التصميم في حكومة حسين العويني سنة 1964,جمع ثروته في السعودية، حيث كان نائباً لوزير الاشغال العامة والمال، فأجرى العديد من الصفقات والاتفاقات البترولية بين المملكة السعودية، وشركات البترول العالمية، ولما أقيل من عمله، في ظروف غامضة، عاد الى لبنان، فأدار مشاريع صناعية وتجارية وسياحية عدة، منها شركة الفنادق الكبرى "فينيسيا"، "فاندوم"...

عندما "دُفِعَ"  رفيق الحريري، من الرياض ودمشق، للانخراط في العمل السياسي، أدرك أن منطقة "رأس بيروت"، هي بطاقة انتسابه  الى عالم السياسة اللبنانية، فتلك المحلة من بيروت، هي المدرسة، والجامعة، والنادي، وعلب الليل والسهر، وكل لغات الأرض، وكل التقليعات، والزواريب، والتظاهرات التي هللت يوماً لثورة جمال عبد الناصر، وثوار فلسطين، وهي التي نقمت عليهم عندما تطاولوا عليها، وانتهكوا حُرمتها,  فضاقت بهم ذرعاً بعدما  كانت حملتهم على الراحات، و... هي "مطعم فيصل" ومقاهي الأرصفة، "هورس شو"، كافيه دو باري"، "مودكا، "ويمبي"، "ستراند"، "إكسبرس"، والجامعة الأميركية.

 

C:\Users\acc\Downloads\IMG_7256.JPGC:\Users\acc\Downloads\IMG_7253.JPG

قصر صالحة : مقر الرئيس الراحل الحريري الجامعة الاميركية-قريطم LAU

 

 

 "رأس بيروت"، كما "الرملة البيضاء"، هي  محطة الارتقاء, بالمعنى الاجتماعي، والثقافي، والفكري، والسياسي، مع المحيط البيروتي الغني والمتنوع اجتماعياً، وثقافياً، وفكرياً و... سياسياً. لذلك، اشترى رفيق الحريري قصر صالحة في "قريطم" ليقيم فيه، ومنه  يحكم، ويتحكم بالقرار السني.

لم يترك القصر كما اشتراه، تولت شركة "اوجيه"، التي يملكها إدخال تعديلات على القصر، وأضاف عليه  مبان جديدة غلب عليها الطابع العمودي ولكن مع مراعاة البناء الأصلي الأفقي. وتدريجياً تصالح قصر الحريري الجديد مع محيطه النخبوي والشعبي، وأصبح علامة مميزة، أعطى المكان صفة جديدة، صار قاصد المنطقة بسيارة الأجرة أو "تاكسي" لا يؤشر فقط الى جامعة "إل إيه يو"LAU (الجامعة اللبنانية الأمريكية)، بل "قصر قريطم".

 C:\Users\acc\Desktop\unnamed (2).jpg

C:\Users\acc\Desktop\unnamed (3).jpgC:\Users\acc\Downloads\IMG_7263.JPG

جامع قريطم الروشة

 

***

كانت أم عدنان تحرص على التواجد دائما في البناية، تتابع شؤونها وشؤون المستأجرين وطلباتهم، والأهم من ذلك مراقبة إبنها  الثاني حسن، العاطل عن العمل، الذي كان يحاول أن يُظهر أمامنا، نحن المستأجرين، أنه المالك، والآمر الناهي، وله الشورى والمشورة، فأم عدنان كانت تعرف جيداً,  أن ابنها المدعي، ليس "القبضاي" مفتول السواعد، الذي يخدم الناس ويحابي، ويجير مستجير، إنما مجرد "بلطجي"، كما نصف، في مصر، الذي يريد شراً بالناس ويقتات خبزه من التسلط عليهم.

"شارع مدام كوري" يستفيق باكراً، عندما  تضج الشمس بالضوء، فيمد يده على كل المطارح، تدب الحركة في أوصال الشارع، والسيارات المركونة على جانبي الشارع تبدأ بالاختفاء، يسارع إليها الذاهبون الى أعمالهم، ليزدحم الشارع بباصات المدارس، يلملم التلاميذ من أمام البنايات، ليعيدهم عند إنتهاء اليوم الدراسي.

من نافذة الشقة الغربية، تطلّ صخرة "الروشة"، يغسل الموج قدميها مُداعِباً ولا يتعب، يسرح نظرك معه، ومعها، ومع الأفق الأزرق. ومن شرفة أخرى تمتد أمامك منطقة "ساقية الجنزير"، حيث فندق "بريستول" العريق والفخم.

 

C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7062.jpgC:\Users\acc\Desktop\unnamed (1).jpgC:\Users\acc\Downloads\IMG_7258.JPG 

 جورجينا رزق على طابع بريد تذكاري شارع مدام كوري وفندق بريستول

 

وذات يوم، وفي لفتة عين من الشرفة، وعلى "فراندا" الطابق العلوي من بناية قبالتنا في أول "ساقية الجنزير"، لمحت جورجينا رزق,  ملكة جمال الكون، كانت مع ضيوف عندها، وصرت أراها باستمرار، وقد ألفت جيرتها. وتلك الشقة، أصبحت فيما بعد"عش الزوجية"، بعد زواجها الذي فاجأ الناس، من "الأمير" الفلسطيني "الأحمر" علي حسن سلامة سنة 1978 واستمر سنة، وانتهى باغتياله. 

 

 

 

كنتُ غالباً أتندر في المكتب، متشاوفاً على إسلام شلبي، فأقول باعتداد:

"جارتي جورجينا... جورجينا ملكة جمال الكون"!

بعدها تصهلل ضحكة إسلام ... من المزاح.

وإن أنت  خرجت الى "فراندا" الشقة، تنتصب أمامك العمارة المواجهة، وترى جاراتك: 

واحدة تركز على أرنبة أنفها نظارتين طبيتين، تفتح جريدة Daily Star اللبنانية التي تحكي عواميدها اللغة الإنجليزية، ولاتزيح وجهها عن الجريدة، إلاَّ لإحتساء فنجان القهوة. وأخرى، في "فراندا" ملاصقة، تجلس على كرسٍي هزَّاز، وكانت تلك الكراسي موضة زمانها، لا يخلو بيت منها، وعلى حجرها قطة "سيامية" منفوشة الوبر.  وثالثة تفرك الهواء بيديها، وهي تتحدث الى امرأة يبدو عليها الاهتمام بالحديث، وفنجان الشاي بيدها في رحلة  رتيبة من الطاولة الى شفتيها.

ويمكنك أن تضبط ساعتك على التاسعة، عندما ترى الجار الأنيق مع زوجته، يتناولان الإفطار في "الفراندا"، هو يقرأ جريدة "النهار"، بينما هي تفر بأناملها صفحات جريدة L’ Orient-LE jour ، يبدو لك أن حركة الجارة المتأنية وهي ترفع فنجان الشاي المزخرف، على مهل الى شفتيها. تلهيهما القراءة عن الكلام، ولكنها لا تلهيهما عن تناول "كرواسان" مع المربى.

قبالة بناية أم عدنان، الأنيقة في هندستها، يعاند مسجد صغير أثري الدهر، ويظل رابضاً، كان بناه، في القرن التاسع عشر، الحاج مِصباح قريطم، لا تتعدى مساحته 300 متر، على مدخله ثُبِّتَ "حاكٍ" و Phonograph تدور فيه أسطوانتان، تحملان صوت مؤذن يدعو للصلاة، كلما وجبت... ولهذا المسجد حكاية، ليس ها هنا مكان الكلام عنها، سيأتي أوانها فيما سيلحق.

وفي الحي دكان، يبيع كل ما تشتهيه وتحتاجه من مأكولات، ومشروبات، وخضروات، ولا تغيب عنه الأصناف، منها مصنوع في لبنان، ومنها المستورد من كل بقاع الدنيا، إن أنت طلبت ما لم  يتوفر للحال عنده، توّصيه، فيحضره لك في الغداة.

***

كانت المرة الثانية، التي أختار فيها بيتاً، بعدما تركت بيت أبي، الذي إحتميت فيه من الوحشة، والوحدة، وخيالات الطفولة.

المرة الأولى كان "بيت الزوجية"، الذي اخترت أثاثه، ووقفت على أدنى التفاصيل فيه، من أجل الألفة، والأنس، والراحة النفسانية.

وفي بناية طبَّارة، إخترتُ الشقة التي تحضن أحلامي وطموحاتي، وتمنحني جدرانها السكينة، والأمان، والحماية في الغربة.

"الجار قبل الدار"، قالت لي أم عدنان، "و جيرانك"، تابعت بثقة العارف، "من أحلى الناس".

إلاَّ أنني لم أتعرَّفُ على "الجيران"، إلاَّ بعدما جاءت عائلتي الصغيرة من  القاهرة، خلال العطلة المدرسية، فتفاجأنا، لما عرفتا بوصولهم، بالجارتين، نوال وأفروديت، تدخلان علينا ومعهما أولادهما داني وروني، وكانوا في سن أولادي، شريف وشيرين، للتعرف بهم، وتقديم المساعدة، وتلك تقاليد "الشهامة والنشامى"، حسب أقوال العرف المتعارفة.

ولا أذكر مَنْ مِنْ الكتاب اللبنانيين، ولعله أمين نخلة، هو الذي قال:" أجمل ما في الغربة، أنها تجعل الغرباء أصدقاء".

وجيراننا، أصبحوا أصدقاء، فكانت ألفة، ومودة، وتحاب، وعِشرة، وتزاور، فلم تشعر زوجتي بالغربة، ووجد كل من شريف وشيرين، من يؤنس بعادهما عن القاهرة، ويخفف من شعورهما بالإغترابِ.

وكما زوجتي، كذلك، الأولاد افتتنوا ببيروت، بالبحر، والسهل، والجبل، وعشقوا البلاد، فاتخذوا قرار العودة والعيش في بلاد الأرز.  

 

الشمس تقف في قرص السماء عارية في الصيف، سوى من خيط غيم رفيع على خصرها. وتروح تخون المطارح، تتسول الهواء، والنهار يولد من بين أصابعها ولهاناً.

ساعة ينسكب الضوء في الغرفة، يغسلُ وجهي، يبدأُ يومي. وأحلى أيامي: الآحاد، نهاية أسبوع من التعب والإرهاق، والاجتماعات التي تتواصل ولا تنتهي، لترتيب العمل في الهيئة، ضمن جدول زمني وضعه إسلام شلبي.

وكنتُ أيام الآحاد، أحب أن أسلم نفسي لبيروت، أدعها تأخذ بيدي الى مطارحها الحميمة، وكانت نشوتي، المشي على "كورنيش المنارة" وصولا الى "الروشة"، وكان عندي "كورنيش السعادة".

وغالباً ما كان تطوافي يسحبني الى "الزيتونة"، التي ينسكب فيها الجمال، يحتويها، طبيعياً، ساحراً، مرسوماً بألوان ولا أحلى، ويبهرك كل ما تراه فيها:

البحر يهدر، يلتاع، ثم تترنح أمواجه، تغسل قدميها. بيوتها تتغطى، وتستر رأسها بالقرميد الأحمر، كأنها تلبس عمامات حمراء.

وتمد بصرك، تملأ عينيك، بروعة هندسة "فندق سان جورج" العريق، تتراقص في مرساه اليخوت، والقوارب الشراعية الصغيرة. ويحلو لك أن تتفرج على "التزلج على الماء" SKI nautique، فنادي "سان جورج للتزلج على الماء"، هو الأول، والبادىْ، في إدخال تلك الرياضة الى العالم العربي، وكان أسسه وترأسه، سيرج نادر,  كما ترأس "الاتحاد اللبناني للتزلج على الماء"، وهو بعدما اشتعل الاحتراب الداخلي في لبنان سنة 1975، حمل تلك  الرياضة الى الخليج، وأدخلها الى "الإمارات العربية المتحدة".

 

C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7122.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7096.jpgC:\Users\acc\Downloads\IMG_7114.JPG

 طلة على فندق سان جورج مقهى الحاج داود آثار الحرب على مقهى داود

 

وتتلهف الى "صحن فول مدمس"، و"ترويقة" على الطريقة اللبنانية، وأنت جالس فوق الماء، يروح الموج يعربد، تحت قدميك، ويُسمِعك ثرثرته الرتيبة. وتدخل "مقهى الحاج داود"، العَتيقُ والمُعَتَّقُ، عِتْقَ الخمر في الدنن، كما قال مرة شاعر جوّال.

و"مقهى الحاج داود"، لمن لا يعرف، هو معلم أساسي من نبض مدينة بيروت، ونقطة استشعار لحركة الناس. فيه تمت اللقاءات الأدبية، وفيه نَظَم الشعراء شعرهم، وعلى كراسيه  جلس مفكرون، قضاة، سياسيون، ونقابيون، تداولوا، خططوا، وقرروا...

وهو إن حكى، يخبرك، أول ما يخبرك، عن صاحبه، الحاج داود عبد الكريم حسن الخطاب، كانت عائلته واحدة من خمس عائلات بيروتية، تملك "منزولا"، والمنزول هو بيت ضيافة، يكون في العادة مستقلاً عن المنزل، له مدخله الخاص، وغُرَفه، ومنتفعاته.

كان الحاج داود، يخبرونك، يسهر مع أصدقاء له خُلَّص، في "عرزال"، وسط منطقة الأوزاعي، لتدخين "الأركيلة" (الشيشة)، وحدث ذات يوم، أن دبَّ  الخلاف مع صاحب العرزال وأدى الخُلافُ ذاك، بالحاج داود، الى التفكير بأن يكون له ولأصدقائه، عرزالهم الخاص، فطفق يفتش عن مكان، فأعجب بأرض قرب ما كان يعرف، بإسم "مقبرة السمطية". فقصد "ناظر البحرية" (رئيس الميناء)، طالبا مساعدته لإستثمار قطعة الأرض، التي كانت من أملاك الدولة، فأعطي الحاج داود عشرة أذرع. وتلك "المحلة" التي اختارها الحاج داود كانت تدعى "الزيتونة"، فكبرت، واتسعت، وتوسع فيها العمران، وتحولت الى مطاعم، وملاهٍ، وعلب ليل، لا تنام ولا تشبع من السهر.

عند فقش الموج مباشرة، وعلى امتداد صخري يعلو سطح البحر بثلاثة أمتار، تشكل خليجاً صغيراً، طوله 500 متر، شيَّدَ الحاج داود"عرزاله" على الصخور شنة 1870، وتدريجياً، أخذ العرزال يجذب الناس، وأصبح الحاج يقدم القهوة، والأركيلة، والشاي.

واقترحوا عليه أن يحول "العرزال" الى "مقهى"، وللتغلب علي صغر مساحة الأرض (6 أمتار مربعة)، استخدم الحاج لبناه مقهاهُ’ أعمدة طويلة من خشب "قطراني" صلب، استورده خصيصاً ,من "الأناضول" (تركيا)، وهذا الخشب مقاوم للماء والحشرات، ولا ينخره السوس الذي يعشق الخشب، ويبقى على الدهر مُعانِداً، فتم غرس تلك الأعمدة عميقاً في البحر، وعليها تمددت أرض المقهى، فكنت وأنت جالس، ترى سطح الماء، من الفواصل بين ألواح الخشب التي تتشكل منها أرضية المقهى. وجيء له بكراسٍ مصنوعة من الخيزران، وطاولات خشبية مختلفة الأحجام.

وفي تطور آخر، غطى الحاج داود رأس مقهاه بالقرميد الأحمر، وثبّت على جدرانه نوافذ زجاجية، تداعبها أمواج البحر، وتسيل عليها بغنج، في الصيف، وفي الشتاء تضرب الأمواج رأسها بالزجاج بحنق، وتلك ميزة "مقهى الحاج داود": صوت الموج، وانتشار رذاذه.

ينفصل المقهى عن الشارع العام بزاروب (زقاق)، وله مدخلان وسلم (درج)، يركن الزبائن سياراتهم في الزاروب. 

أمامه "خليج الزيتونة"  وفندق "سان جورج" بقواربه ويخوته، خلفه الكورنيش وفندق "نورماندي " ثم " فينسيا".

يخبر البيارتة، أن المفوض كولومباني,  مدير الأمن العام الفرنسي أيام الانتداب على لبنان وسوريا، ظل يلتقي "القبضايات" فيه، وكان المفوض الفرنسي صديقاً لدرويش بيضون (أبو علي) من قبضايات بيروت المرهوب الجانب. ومع تمادي السنوات أصبح أبو علي، شريك المفوض في الأعمال التجارية!

ذات يوم دخل أبو علي، على عادة منه مقهى الحاج داود، فوجد ضابطا فرنسياً يجلس واضعا ساقاً على ساق، فاغتاظ، وطلب من الضابط الفرنسي أن يسوي من جلسته، فأبى، فما كان من درويش بيضون إلا أن أمسك الضابط من كرسيه وقذف بهما في البحر! وكالعادة أزال كولومباني ذيول الحادثة.

من زبائن "مقهى الحاج داود" الدائمين، أمين نخلة، الشاعر والكاتب والنائب السابق، وكان يلتقيه الرسام التشكيلي مصطفى فروخ، ويدور حديث الأدب والشعر والرسم، وي دخل الشاعر والمحامي ونقيب المحامين ميشال عقل، حلبة الكلام، وخلال عمله في السلك القضائي، كان سامي الصلح، (أو "البابا سامي"، كما يسميه اللبنانيون تحبباً، عندما ترك القضاء الى السياسة والى رئاسة الحكومة مرات، زمن رئاسة كميل شمعون للجمهورية اللبنانية)، يداوم على الحضور، ومعه وينزل كلام على السياسة ويحتد مع جبران تويني (والد غسان تويني)، أيام جريدة "الأحرار" وبعدها "النهار". ومن زوار المقهى الدائمين النائب والوزير السوري عبد السلام العجيلي، الذي كان يأنس بلقاء السياسيين اللبنانيين، ويستلذ بأحاديث الأدب والشعر والفنون.

وفي "مقهى الحاج داود" دارت اجتماعات "حركة القوميين العرب"، التي كان على رأسها المحامي عمر زين، الأمين العام السابق للمحامين العرب. فمناخ الحرية التي عاشته بيروت، سمح للحركات السياسية والنقابية، أن يتسع مداها ونطاقها.

وقد يكون الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، الشخصية المميزة بين رواد المقهى، الذي كان مقره الدائم، منذ ترك السكنى في دمشق مفضلا عليها بيروت، التي وجد فيها حرية افتقدها في العاصمة السورية، وكان النجفي يلتقي في المقهى أصدقاءه الأدباء والشعراء، منهم ميخائيل نعيمة، (الذي يأتيه من "الشخروب"، ومارون عبود، الذي ينزل بيروت من "عين كفاف" ضيعته,  و رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي).

وقد شاهدت أحمد الصافي النجفي، مراراً في "مقهى الحاج داود"، ومن عاداته الغريبة، أنه كان يجلس على كرسٍي منحني الظهر،  ويمد يرجليه أو يتكئ على ثان، ويضع كوفيته وعقاله على ثالث، ومجموعة الجرائد على كرسي رابع، وبين الفينة والأخرى، تسمع صرير قلمه على طرف جريدة، أو علبة سكائر، يسجل خاطرة باله، أو مطلع قصيدة، وفي الليل في غرفته العارية إلا من سرير وطاولة خشب نخرها السوس، كان يعيد صياغتها.

 

خلال الاحتراب الداخلي الدامي والمدمر، كان النجفي ماراً على رصيف المقابل لمقهى "الحاج داود"، قاصداً أحد الأفران ليبتاع خبزاً، فأصيب برصاصات خمس أطلقها احد القناصين,  و بعد إسعافه في بيروت، قامت الحكومة العراقية بنقله الى الى بغداد لمعالجته، وكان أُذيَ في بصره وما عاد يرى,  فارتجل هذا البيت، وهو في الطائرة، بعدما قيل له أنها تحوم فوق بغداد:

 

يا عودةً للدَّارِ ما أَقْسَاها

أسمعُ بغدادَ ولا أراها

 

وتجلس الى طاولة شرشفها مربعات حمراء وبيضاء، ناصعة نظيفة,  يقترب منك نادل، ينحني أمامك بتهذيب، تطلب ترويقة فول، لتوضع أمامك مجموعة من الصحون، صحن للفول المدمس، وآخر للبندورة البلدية، مقطعة شرائح، وثالث للنعناع والفجل والبصل الأخضر، ورابع للزيتون، ومنه الأخضر المسبح، والأسود المرصوص والمغمس بالزيت والحامض، وخامس للخبز الساخن، وقنينة صغيرة من زيت الزيتون الصافي. و"فول" الحاج داود يُغسل، وينقع بالماء، ثم يترك الليل بطوله يغلي على الحطب، قبل تتبيله، وتقديمه، طبق ولا أشهى.

و"تحبس"، كما نقول في مصر، إما بالشاي، أو القهوة، المغلية على"فحم الدقة" (فحم مطحون).

الأركيلة في مقهى الحاج داود من التنباك العجمي، ويسمح للزبون أن يحضر تنباكه معه، فيتولى "الأركلجي" (الذي يهتم بالأراكيل) في تحضيرها، لقاء 50  قرشاً، أما أركيل التنباك العجمي فسعرها ليرة واحدة، مع خدمة "الأركلجي"، الذي يدور  يتفقد الأراكيل ويزيدها جمراً.

 

C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_1703.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7102.jpg

 " صبحية" مع فنجان القهوة والأركيلة لعب النرد

 

كان ثمن صحن الفول مع  رغيفين و"سرفيس" كامل 75 قرشاً، وإن قررت تناول الغداء، فصحن الخضار المطبوخة، خمسة أصناف، وقرص كبة مشوية ورغيفين 150 قرشاً، وإن ملت للحم المشوي، فأوقية منه مع رغيفين و"سرفيس" كامل ثلاث ليرات، والسمك المشوي أو المقلي مع لوازمه: حمص، أو طرطور، أو سلاطة، أو كبيس ومخللات أربع ليرات.

وكان المقهى يقدم "فروتو"، (كلمة أصلها إيطالي، يستخدمها اللبنانيون للفاكهة بعد الطعام)، هي عند الحاج داود موسمية.

ومقهى "الحاج داود"  يفتح ذراعيه لزبائنه الساعة الخامسة فجراً حتى السادسة مساء، حين تروح المنطقة تزدحم برواد الملاهي الليلية والخمارات. ومن المفارقات، أن زبائن  الفجر هم رواد الليل والسهر وعلب الليل، في الزيتونة، "كيت كات"، "منصور"، "فونتانا", Coq d’or  ...

على  بعد خطوات ومقابل السفارة الأمريكية، (قبل أن تنتقل الي "عوكر" في أعقاب الاحتراب الداخلي)، يلتقي صيادو المنطقة عند قهوة "الديك"، وقبضايات "عين المريسة" يجتمعون في زوايا المقهى الذي يعكس الحياة البسيطة لهؤلاء فيلتقون على فنجان قهوة أو نَفَس أركيلة، وتعرج على The Green وتخال نفسك في لندن، فهو خمارة لندنيةPub  قيل لي، ولم أكن أعرف الخمارات اللندنية، وعندما اغتربت وعشت في مملكة إليزابيث الثانية، أدركت إلى أي مدى افتتان اللبناني بالغرب، فإن راقَ  له ما يراه في أوروبا,  أو أعجب به، أحضره أو قلّده في بيروت. 

في مقهى ومطعم "الغلاييني"، كان سامى الصلح يدير اجتماعاته مع زعماء الأحياء لمناقشة الأوضاع العامة فى غرفة خاصة خُصصت له. 

والمقهى والمطعم جزء من 8000 متر (حوالي  فدانين) يملكهما محمد وأحمد الغلاييني، وبعد وفاتهما لم يستطع الورثة إدارة المكان، ولعدم قدرتهم على تحمل نفقاته، باعوه لعبد الله الضاهر، فبدأ بناء منتجع "ماريلاند"، إلاّ  أن الاحتراب الداخلي تسبب في تراكم الديون، فباعه الضاهر للأمير السعودي– اللبناني الوليد بن طلال (والدته ابنة رياض الصلح)، الذي أعاد هندسته وتوسيعه وسماه "موفنبيك".

وكان مقهى ومطعم "دبيبو، ينافس "الغلاييني"، أما "العجمي" فله تُرفع القبعات، لتقوم في الروشة، مطاعم، تحوط "كازينو فريد الأطرش": "يلدزلار"، "شانغريللا", Chez Paul التي كانت تملكه شركة سويسرية، ولا أحلى من Diplomat تنهي فيه تجوالك.

وأتوقف، في  مقهى "الروضة" (أو شاتيلا كما يسميها البيارته)، وهو يطل  على "الحمام العسكري"، الذي يحب اللبنانيون اسمه بالفرنسية  Le Bain Militaire لأتناول فنجان القهوة، فهو شرفة مدينة بيروت يحافظ على أشجاره والعصافير تعشش  بين الأغصان، مازال يحتفظ بطيف بيروت القديمة، شهرته تعادل أهمية "شارع الحمرا "، شهد عِزُه في السبعينيات لا سيما مع المثقفين الذين ينتمون الى مختلف الأنماط الفنية، ويشهد المقهى صباح كل يوم كتّابا صحافيين وعشاقا يستهلون نهارهم بفنجان قهوة أو كوب شاي منهم الشاعر شوقى يزبع، وزاهي وهبى والموسيقى أحمد قعبور، وبلال شرارة، الممثل والكاتب رفيق على أحمد يعيش فيه ساعات طويلة فهو يعتبره مكتبه الخاص فيه يكتب مسرحياته.  شهد هذا المقهى قصص الحب والصداقات. 

 C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7104.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7099.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7101.jpg 

 مقهى الروضة المعروف بشاتيلا الفنان رفيق احمد في مقهى الروضة

مقاهي بيروت، لم تكن للترفيه، ولعب طاولة النرد، أو "الدامة" أو "دومينو، وفي الغالب "ورق الشدة"، وتدخين الأراكيل، إنما كانت جزءاً حيوياً من معالم بيروت، وكانت منتديات للقاءات الأدبية، والفكرية، ومقراً للحركات السياسية والنقابية، ومركز تجمع لتحريك الرأي العام، والتظاهرات، وتنظيم الاحتجاجات، والإنتفاضات المطلبية والشعبية حتى بات بعضها معلماً أساسياً من حركة بيروت. وقد كتب في المقاهى آلاف الشعراء على امتداد الوطن العربي الهاربين من بلدانهم الى بلد أكثر أمناً وحرية في التعبير، وكان الشاعر  السوري محمد الماغوط خصب السرد في الكتابة عن مقاهي بيروت فكتب قصيدته "مقهى في بيروت"، التي تتحدث عن البعد عن الأهل والنفي الإختياري أو الإجباري، وعن المدن التي تبتلع الضائعين فيها وعاشقيها على السواء. 

وقد كان لرواد مقاهي الأرصفة في "شارع الحمراء" دورهم البارز في إطلاق الكثير من الحركات التحررية العربية، بالإضافة الى البصمات الواضحة في حركة التحديث في الشعر، والأدب، والمسرح، والفنون التشكيلية والنحت.

جاء انتشار هذه المقاهي في لحظة وفد الى بيروت نخبة من مثقفي وشعراء تلك المرحلة الذين افترشوا أوراقهم على طاولاتها على الأخص مقهى « الهورس شو»: يوسف الخال وقد أسس  مع أنسي الحاج "مجلة شعر"، نزار قباني، الذي كان لبيروت الفضل في إطلاقه، ففيها طبع ديوانه الأول "طفولة نهد"،  أدونيس، محمد الماغوط، نذير العظمة وفؤاد رفقه، وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومحمود درويش وعصام محفوظ، صاحب مسرحية "الزنزلخت" الذي كانت شكواه الدائمة لأن بيته بعيد عن"مودكا" ويتمنى لو كان بيته في المبنى نفسه لينزل إليه "بالبيجاما",  "هورس شو"، أول مقاهي الأرصفة في "شارع الحمرا"، والأكثر سماعاً لثرثرات المثقفين والسياسيين...  يبقى الأكثر تألقاً. ساعده قربه من مكاتب" جريدة النهار" في رأس الشارع (انتقلت "النهار" الى مبناها الجديد في ساحة الشهداء قبيل اغتيال جبران التويني)، في زواياه إلتقى رسامون وإعلاميون وروائيون ومسرحيون. من هنا مرّ أنسي الحاج، الياس الديري، وغادة السمان وسونيا بيروتي بشعرها القصير، روجيه عساف، أنطوان كرباج، ميشال نبعة"، رضا كبريت، موريس معلوف، رائد  مسرح الإيماء Mimique  في العالم العربي، الذي إعتبره مارسيل مارسو من أهم الممثلين الإيمائيين في العالم، ريمون جبارة، سعدالله ونوس، بول جيرجوسيان، الإخوة بصبوص الذين ينحتون الحجر والخشب، وغيرهم من ذاك الزمن الجميل.

 

C:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7105.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7125.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7054.jpgC:\Users\acc\AppData\Local\Microsoft\Windows\Temporary Internet Files\Content.Word\IMG_7052.jpg

 مقهي لا دولتشي فيتا مقهى الهورس شو مقهى كافيه دو باري مقهي لا جوندول

 

من أشهر هذه المقاهي التي احتضنت أصحاب الرأي في بيروت، مقهى "لا دولتشي فيتا"   La Dolce Vita وتعنى "الحياة الحلوة" والاسم مأخوذ من فيلم المخرج الايطالي فيلليني الذي أخرجه عام 1960، وصور فيه مشهدا من مقهى فرنسي كان مقصداً لأساطير عالم السينما والفن والأدب، وينهل منه الفنان التشكيلي والسينمائي إبداعاته من خلال جلساته وحواراته، وبالمثل احتضن المقهيان عدداً من السياسيين وشلّة من المنفيين العرب، أبرزهم الثلاثي السوري، ميشال عفلق، صلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني,  الأمر الذي دفع جمال عبد الناصر الى مهاجمة مقاهي بيروت في إحدى خطبه العصماء، وعلى  رأسها " لا دولتشي فيتا" و"هورس شو" لأنهما تُصدران المعارضين والانقلابيين الذين يستغلون مناخ الحرية في بيروت، للتخطيط وتصدير الانقلابات الى دول العالم العربي!

وتبقى أشهر حادثة شهدها "شارع الحمرا"، وقعت  أمام مقهى "هورس شو" سنة 1969، فقد اقتحم رجال الأمن "مسرح بيكادللي"، حيث كانت تعرض مسرحية "مجدلون"، ومنعوا الجمهور من الدخول. 

فما كان من أعضاء «محترف بيروت للمسرح»، الى أن أصرّوا على مواصلة تقديم المسرحية، التي كانت تتناول العمل الفدائي في مواجهة العدوّ الإسرائيلي، وعن تخاذل الأنظمة العربيّة، انطلاقاً من قرية في الجنوب اللبناني.

توجّه الممثلون،  بتحريض من كاتب العمل هنري حاماتي، يتقدّمهم روجيه عسّاف ونضال الأشقر إلى مقهى "هورس شو"، القريب من المسرح، فقاموا بأدوارهم في الشارع، أمام جمهور موزّع بين الدهشة والحماسة، وتحت نظر قوى الأمن التي حرست المكان، لم تتدخل. 

تعللت السلطات بأن "محترف بيروت" لم ينل إجازة لعرض المسرحية، بينما كانت الحقيقة أن السلطات توجست شراً من تقديم عناصر من الأحزاب اليمينية المعادية للوجود الفلسطيني، الذي كان بدأ يُعيد كَرّة ما جرى في الأردن قبل أيلول الأسود، وخصوصاً على أثر "اتفاق القاهرة" الذي رعاه عبد الناصر لفض الإشكال بين السلطة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وها هنا ليس مجال التوسع في تلك  قضية، كان لها ما لها على الساحة اللبنانية، وعايشت مضاءها خلال وجودي في بيروت,  وكانت أحد أهم عوامل الاحتراب  الداخلي المؤلم (1975-1990)، فطُعنت بيروت، وذُبحت من الوريد الى الوريد، والعرب يتفرجون.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز