عاجل
السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الغربة الأولى (1).. السفر من الأمس المعلوم إلى الغد المجهول

الغربة الأولى (1).. السفر من الأمس المعلوم إلى الغد المجهول

في ممرات الحياة، لا نعلم ماذا يخبيء لنا القدر، فكل ما يصيب الإنسان من خير أو شر يكون بقضاء و قدر.



 

فوجئت ذات صباح بمكالمة هاتفية من الزميل مفيد فوزي يطلب مني فيها تحديد موعد للقاء إسلام شلبي, و كان صديقا له يوّده, و قد جاء من بيروت، و في مكتبي بالصبوحة طلب التعرف بي و مقابلتي. 

 

كل ما جال في خاطري أن الرجل، و هو ناشر معروف، يريد تكليفي برسم أغلفة لمطبوعاته، و أغلب الظن مصمما لكُتبه... و قد عرفت أن الدكتورة القلماوي عينته مستشارا للهيئة العامة للكتاب، و مديراً عاماً لمكتبها في بيروت. 

 

و كان اللقاء في "فندق شيبرد" في منطقة "جاردن سيتي", للوهلة الأولي جذبني إسلام شلبي, فلقد كان برّد الله ثراه, محدثا لبقا, يتقن إختيار تعابيره, حسما لما يقول, واثق النفس, شعلة نشاط, كفؤ, فاهم, منير ومستنير, و نبع علاقات عامة, جمعني به برج فلكي واحد و عام مولد واحد.

 

علمت منه أنه صاحب فكرة إقامة معرض للكتاب في القاهرة أقنع به د. سهير القلماوي, فجاب العديد من الدول زار خلالها دور النشر العالمية لإقناعهم بضرورة المشاركة في افتتاح أول معرض دولي للكتاب  في مصر و العالم العربي, في ظل التهديدات الإسرائيلية بمقاطعة الدول التي تشارك... فنجح بجهده و علاقاته الشخصية في الوصول لمشاركة 27 دولة و أكثر من 40 دار نشر في المعرض، و زاره اكثر من سبعين ألف زائر. 

 

 

اللقاء لم يكن لمجرد التعارف، و لكنه كان لقاء مع شخص في رحلة تنقيب للبحث عن كفاءات، و حسب لغة خبراء الموارد البشرية Headhunting ، فاسلام شلبي المكلف بتأسيس فرع الهيئة العامة للكتاب ببيروت يبحث عن كفاءات للعمل معه. 

حادثني  عن نشأته في مدينة "المنصورة", و دراسته لإدارة الإعلام بالجامعة الأمريكية في بيروت لAUB ، و عمله  في تسويق الكتب و الموسوعات مع اللبنانى بول خياط, الناشر و الموزع للموسوعات و المخطوطات, و كنوز العلوم و الآداب و المجلدات العلمية و الفنية ... و صاحب  المكتبات المعروفة واحد في شارع " بلس", حيث الجامعة الأميركية العريقة,    و أخرى في "شارع الحمراء".

 

 

جاءني إسلام  شلبي بعرض مخاطبا فيّ رغبتي في إثبات الذات, و تحقيق مزيد من النجاح فى حياتى المهنية، مخاطبا طموحي و شغفي  فى العمل و العطاء، فعرض علي الإدارة الفنية للهيئة في بيروت, و أسهب في شرح خططه فى النشر لمؤلفات كبار كتّابنا و مفكرينا من بيروت, ضمن خطة وضعتها د. سهير القلماوي لمحاربة قراصنة الكتب، و خطط كثيرة طموحة في النشر و الطباعة، منها إنشاء مطبعة مصرية في لبنان .. طالباً مساعدته و مساندته في تحقيق الحلم و تأكيد النجاح.

ترك لي مشكلة اتخاذ القرار.

 

 

كان القرار صعبا,  مع  ضغوط الاهل و الأصدقاء و الخوف من ... الغربة.          

                                                                     

في هذي اللحظات, وحَّزة القلم على الورق ترسم الأحرف و تتوزع البياض, تأتي الوجوه الى ذهني, من الماضي, كأنَّها في سفر, و تذهب من ذهني كأنَّها على سفر أيضاً.  

 

                                                         

زمن مضى بناسه و أهله, أستدعيه, فيحضر, و تتكوم الصور المنطبعة في خاطري, كأني أعيش, أيامذاك, كرة ثانية,     و يردُّ حلوها, و مرها, سعادتها و لذائذها المنقرضة الى نفسي. 

 

 

 

 

 

 

 

منذ أن تلقيت عرض العمل في لبنان, ترونق في خاطري السؤال: هل أريد الإغتراب عن الوطن, و الأهل,    و الصُحاب؟ و تكثفت الأفكار و تلاطمت, حول الغربة, و لم يستقر وعيي إلا على كلمات قالها لي والدي, برَّدَ الله ثراهُ, و هو يسقي أحرف كلماته إحساسا, و تصميما, و حنانا:

"في السفر يا بني سبع فوائد... سافر و لا تخف من المغامرة, لعلك تحقق ما تصبو إليه, قبل أن يفوتك الأوان و...تندم".

 

 

و راح يلملمُ من عيني خشيتي و ترددي:

"لا تخف من المجهول... ربما كان المجهول أفضل من المعلوم. لا تخف من التجربة, و من إكتساب خبرات جديدة". 

 

 

و على الرغم من كلام أبي, بتُّ أياماً معطل العقل, مجذوب الخاطر, ساهي الفؤاد, تتناوشني الظنون والأفكار، فقد كنت مرتاحا للعمل في "روز اليوسف", و أنال التقدير و الثناء, و الرزق كان يأتيني من غير دار نشر, لرسم أغلفة الكتب و أحيانا  كثرة تصميمها و توضيبها لتمتثل الى الطابعة, ما يكفي الكفاف و يزيد ...  

 

ثم في وقفة مع الذات أيقنت, أيضا , أنه ليس هناك أي مجال للإضافة, من ما كانت, وقتذاك, حالي. فقد وصلت كمخرج و مصمم فني  صحافي الى قمة السلم, إن في "روز اليوسف" أم في  دور النشر, عبر رسم و تصميم أغلفة الكتب, و لم يبق مكان للإستزادة أو ترفع. 

 

 

 

لم أعرف هدنة بيني و بين تلك الأفكار المتلاطمة, المتناقضة و المتنافرة في رأسي. سهرت معي حيرتي في تلك الليلة, و جافاني النوم. الساعة جاوزت منتصف الليل بساعات, و إستمكن مني شعور بأن عليّ أن أحمل حقائبي و... أسافر, أجرب حظي و أسعى.

 

 

و حدث أن قدّمت الى إدارة "روز اليوسف" طلب إجازة مفتوحة بلا راتب, و أخذت عهدا على نفسي, أن ألتزم بمراسلة مطبوعات الدار من بيروت, و أن أمدّها بالأخبار السياسية و الثقافية  و الفنية, الى جانب الأحاديث الصحافية,     و التحقيقات المصورة.

 

 

وإضافة الى ذلك كله, تلبية إحتياجات مطابع الدار من المواد الخام و الأحبار و قطع الغيار, التي كانت كلها متوفرة بوفرة في بيروت,  و من السهل الحصول عليها و شحنها, بينما صعب الحصول عليها في مصر, بسبب من أزمتي الإستيراد والعملة الصعبة.وإلتزمت.

 

 

يجب أن تُقال الأهمية التي للتواصل اللبناني – المصري.

 

 

يكفي أن يقال: أكثر الناس موّدة الى اللبنانيين هم المصريون, حتى تطلع من ذاكرة التاريخ وقائع  تثبت بقِدَم الحضور اللبناني في مصر, و أثر و تأثير اللبنانيين، صحافيين و شعراء, أدباء و مفكرين, و... فنانين على الحياة الصحافية, و الأدبية, و الفنية في مصر. 

 

 

فلا غرو, بعد ذلك كله,  أن تتبرعم الألفة, و تتوطد المودة بين المصريين و اللبنانيين,  فلا يشعر المصري عندما يشّد الرحال الى لبنان, أنه يسافر الى بلد غريب, لا يعرفه و لا يعرف ناسه. 

 

 

 

 

 

 

 

استهوى وادي النيل اللبنانيين, لما بدأ الخديوي إسماعيل, إعادة تنظيم الحكم و الإدارة, تنظيما يمكن أن يجعل مصر بلدا عصرياً, فوجد الخديوي في خريجي الجامعات الأوروبية في بيروت موظفين أكفاء, يمكن أن يعول عليهم في إدارة المؤسسات الرسمية, و تطبيق النظم الجديدة في إدارة الدولة.

 

 

ولما إحتل الإنكليز مصر سنة 1882, وجدوا, هم أيضاً, أن  اللبنانيين الذين درسوا و تخرجوا في الجامعة الأميركية في بيروت, نعمة "أنعمت بهم السماء", كما قال و كتب اللورد كرومرفكان المهاجرون اللبنانيون الى مصر يقومون بخدمات جلية في حقول الطب و الصيدلة، و العلوم و التدريس، و الإدارة المدنية منها و العسكرية.

 

 

ومن المهاجرين من اشتغلوا في الحقل الفكري- الأدبي و الصحافة و العلم.

و في الواقع أنَّ الصحافة, و كان للبنانيين فيها نصيب كبير, بعثت الروح العربية من جديد, و عملت  على تحرير الشعوب العربية من القيود التي كانت تُقيدها بها حكوماتها, كما عَرّفَت تلك الصحافة, على ما ترك لنا من آثار مطبوعة, لما تزل محفوظة في خزائن الكتب و وثائق المكتبات الكبرى, الناس على مبادىء القومية, كما كانت عليه في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين. 

 

 

و مع أن محمد علي, هو الذي أدخل الحياة العصرية الى مصر، فإن حفيده و خليفته الثاني, عباس الأول, صَرَف من الخدمة المدنية جميع الخبراء الأجانب, كما أغلق كل مدرسة أو معهد له صبغة أوروبية, و أخذ يُعين المهاجرين اللبنانيين, و توكأ على أهل الفكر و العلم منهم, لوضع مناهج تربوية. 

 

 

 

في أعقاب أهل الفكر و الأدب و الصحافة, الذين هاجروا الى مصرَ, جاء التجار, و رجال الأعمال, فوجدوا في أرض الكنانة وطناً بديلاً.

 

 

و في كتيّبٍ وجدته في مكتبة أبي: Handbook of Syria نشرته الأميرالية البريطانية British Admiralty ، و في الصحفة 186 منه, جاء أنه في سنة 1907، كانت ثروة التجار و رجال الأعمال المهاجرين, تقدر بخمسين مليون ليرة إنكليزية, أي أنها كانت تشكل عُشْر الثورة القومية المصرية, في ذياك الزمن.

 

 

و في الكتيب أيضاً إحصاءات تعود الى سنة 1907 أيضاً, تدل على أن عدد اللبنانيين في مصر بلغ ثلاثين ألف نسمة. 

 

 

و كانت مصر الخديوية إحتضنت سليم تقلا, الذي أنشأ "الأهرام" سنة 1875, كانت و لما تَزَلْ حتى اليومَ, "شيخة" الجرائد المصرية, و قد ساعد سليم تقلا في تحرير "الأهرام" أخوهُ بشارة.

 

 

سنة 1883، نزح كل من يعقوب صروف و فارس نمر الى مصر, و إصطحَبا معهُما مجلة "المقتطف", و كانا قد أصدراها في بيروت بتشجيعٍ من كرنيليوس فانديك, أستاذهُما  في الجامعة الأميركية, و هو أيضاً من إختار إسم مجلتهما. فأصبحت أقدم مجلة علمية - أدبية , في العالم العربي. و لم تمضِ سنة, حتى أصبحت "المقتطف" إحدي أهم المنابر الكبرى للرأي الحر. و على صفحاتها ناقش, المهاجر اللبناني الآخر, الدكتور شبلي الشميل, نظرية تشارلز داروين في "النشوء و الإرتقاء". 

 

 

و لم يكتف يعقوب صروف و فارس نمر بمجلة "المقتطف", فأصدرا سنة 1889 جريدة "المقطم", التي نافست "الأهرام" حيناً طويلاً... 

في تلك الأثناء كان جرجي زيدان يصدر على غرار "المقتطف", مجلة "الهلال", فذاع صيتها, و كَثُرَ قراؤها, وإحتلت مكانة مرموقة, كمجلة عربية تعنى بالعلوم و الآدابِ. والى جانب "الهلال", أسس جرجي زيدان دارا كبرى للنشر, صدرت عنها مطبوعات عدة.

 

 

وها هنا, كان غيض من فيض ما قام به اللبنانيون, وما شكلوه في الحياة الصحافية في مصر . 

 

 

 

 

 

 

و كما وجد اللبنانيون في مصر موئلا, كذلك, وجد المصريون في لبنان دارا مضيافة, و مع كرّات السنين كبرت الجالية المصرية في بلاد الأَرز.

 

 

وأخيراً... هدرت محركات الطائرة. كان ذلك الصوت الهادر, و الحنجلة الوئيدة للطائر الحديدي الضخم, الصلة الوحيدة بين عالم  أعرفه, و قد عشته بفرحه, و حزنه, بفيضه و شحّه و إحتياجه، و عالم أجهل ما فيه, و إن كنت أتوق إليه, لعله هو المستقبل المنتظر.

 

 

مرت بمقعدي مضيفة, تقول للقمر غيِّب لأحلَّ مكانك, رمت نظرة تتأكد من ربطي الحزام... يا حسن تينك العينين,    و الفم و ملاحة زمِّهِ. و لعل تلك اللحظات, ألطف ما تقع عليه عينيك, و أنت في علياء الطائرة المشرئبة ببوزها المسنون الى الفضاء الرحب. 

 

 

وساورتني غَصَّة, و الطائرة تشق دربها في السماء بين السحاب الذي يغمرها و يلفها, من كل حدب و صوب: القاهرة و من تركت فيها, و ما تحمله, و ما يغلي فيها, كيف تركتها, و قد عشت ما عشت منها, و فيها, فصارت مني و كأني لا أحيا إلاَّ منها, فلقد وُلدت, و ترعرت, و شببت, و راهقت, و أحببت, و عشقت, و تزوجت, و رزقت ولدين...  و أنا تحت سماها, أكدُّ, أعرق, أبرد, في حناياها.

 

 

و إسترخيت على المقعد, إنطبق الجفن على الجفن, و غبت, تمور في رأسي الأفكار, إقتحم السؤال سكوني: أَيتحَتْمٌ عليَّ أن أستسلم للمجهول؟

 

 

أطل عليَّ وجه أبي, و رجع صدى كلماته يتمدد في ذهني: "أحيانا المجهول أفضل من المعلوم"...

 

 

كبحت تلك الغصّة, قطع تفكيري إهتزاز الطائرة التي إستسلمت لجيب هوائي. 

 

فضاء أزرق ترتاح له العين, و جبال تضحك بالخضرة الزاهية, تطل, تمر بشباك الطائرة في حركة إنسيابية, تغيب.

تسبح الطائرة فوق البحر... تهبط من عليائها تدريجاً.

 

 

مالت عليّ المضيفة، و همست بودّ: "حمدلله علي السلامة يا فندم، وصلنا بيروت" .

 

 

دارت نظراته تبحث عني في زحمة الواصلين الى بيروت. رآني, رقصت عيناه خلف زجاج نظارته, لوّح بيده, كان إسلام شلبي ينتظرني في قاعة الوصول. إنعكست على قسماته رقة نفس عذبة, رسم على شفتيه إبتسامة عريضة, لفني بذراعيه, لوَّن كلامه بمحبة غامرة:

 

 

"حمد الله على السلامة... أهلاً بكَ في بيروت".

الوقت صيف, و الدنيا على غروب, و عين الشمس الشاحبة في حاشية الأفق, ترش العرق المالح على الوجوه.

"بيروت تقضي صيفها على البحر".

 

 

قال إسلام شلبي, رددت كلماته في رأسي, و أنا أستسلم لنسمة مرت على وجهي, في حركة السيارة الإنسيابية.

و تنعطف بنا السيارة الى أطراف بيروت. تقف عند مدخل بناية في "رأس النبع", في أحد طوابقها شقة يسكنها عبد الغفار, المدير المالي, و هي أنيقة, رحبة, تضم غرفتي نوم, إقترح إسلام شلبي, أن أشاركه المكث المؤقت فيها, ريثما أعثر على شقة.

 

 

 

 

تساقط الليل من الإعياءِ من السهر, بيروت لا تحب النوم .

 

 

 

من شباك الغرفة المفتوح, وصلني حفيف ورق شجرة يسكنها الليل, و ترتجف مع نسائم أول الفجر. نمت مغموراً بالرؤى, أنتظر الصباح.

 

 

 

          اسلام شلبي

 

 

 

تسللت أشعة الشمس من خلف ستائر الغرفة, غمرتني, إستسلمتُ لها, كل شيءٍ في بيروت يستفيق باكراً, الشوارع تنفض عنها الليل, و تدب الحركة في أوصالها. 

 

 

من الشقة الى مقر الشركة في مبنى "سيتي سنتر" City Centre المعروف ببناية صالحة و صمدي نسبة لأصحابه، في "ساحة الشهداء" في قلب بيروت, تعرج على المحلات التي تفتح أفواهها الكبيرة على بضاعتها المتنوعة. المارة يهرولون الى أماكن اعملهم, و السيارات من كل طراز يخطر على بالك, و منها ما لم  نكن نعرفه في مصر سوى بالصور!

 

 

"أنت أمام ثاني "مول" يعرفه العالم العربي, الأول "بناية العازارية" القريبة, التي لا بد أن تراها".

 

 

قال عبدالغفار, و دار بعينيه على وجهي, ينتظر أن يرى إهتمامي و دهشتي. مسح المكان بعينيه, و تابع بخيلاء من يرى نفسه ملماً, و عارفاً, لا يُشق له غبار, و لا يُرد له قول:

 

 

"إنها كما ترى, تحفة معمارية فريدة من نوعها في العالم العربي, الشكل البيضاوي الذي تراه بدعة جديدة في الهندسة, و هي  مسرح و صالة سينما إسمها "سيتي بالاس", تحوي 1000 مقعد". 

 

و المبنى الفريد صممه المهندس جوزيف فيليب كرم سنة 1965. و قد شهد قبل الإحتراب الداخلي المؤلم الذي إستمر سنوات عشر, نهضة ثقافية و تجارية, لوجود عدد كبير من دور النشر و المؤسسات التجارية فى هذا الموقع التجاري المميز في وسط بيروت، و كان شاهداً على الكرّ و الفرّ للمليشيات المدججة بالسلاح, و قد تناوب على المنطقة مقاتلو "الحركة الوطنية", التي تضم الأحزاب اليسارية و الفصائل الفلسطينية, و لاحقاً مقاتلو "حركة أمل", حيث إندلعت معارك مع "حزب الكتائب اللبنانية", و بعد ذلك مع "القوات اللبنانية", و ما لبث المبنى أن تحول الى خط تماس ليصل بين شارع "بشارة الخوري "و "ساحة الدباس ". أُحرق, دُمِّر, و صار مركزأ للقنص باتجاه "كنيسة الأرمن" في الساحة نفسها, وصولاً الى منطقة "التباربز", الفاصلة لحدود مناطق أحزاب مختلفة.

 

 

والمبنى الضخم كان يأوي دور نشر عديدة, تتنافس في ما بينها على الفكر, و الأدب, و الشعر, و العلوم شتى,   و على الكتب و أناقة تصاميمها, و رونق و جودة طباعتها, فتحولت بيروت, كما قال الدكتور لويس عوض ذات مرة, الى مطبعة العالم العربي:

 

 

"القاهرة تكتب, و بيروت تطبع, و بغداد تقرأ"...  و كان الدكتور عوض على صواب.

 

 

 

من ضمن دور النشر التي ضمها المبنى حينذاك :"دار صادر"؛ "المكتبة العصرية " ؛ "المكتبة الشرقية" ؛ "دار الفكر العربي "؛ "دار الفكر اللبناني" ؛ "المنهل" ؛"النفائس"؛ "دار فريد صائغ للنشر"؛ " المشرق" ؛ "دار مارون عبود"؛ "دار كنعان "؛ "عويدات للمطبوعات"؛" نوفل للنشر" (أنطوان نوفل صاحب مكتبات "أنطوان" المشاركة لدار "هاشيت" الباريسية)؛ "نوبيليس" ؛ "دار لبنان للنشر"؛ "منشورات الحلبي"؛ "طريق المحبة"... و غيرها من دور و مؤسسات النشر و التسويق, التي يفوتني تعدادها و إستذكار أسمائها... و كان أن إنضمت "دار الشروق" الى تلك المؤسسات, فجاورتها, و نافستها... بعد أن ترك محمد المعلم مصر لظروف سياسية, ليس ها هنا مجال الحكي عنها. 

 

 

وقد وصل عدد دور النشر الكتب و الموسوعات و المراجع الى 650 دارا, مسجلة جميعها  في سجلات "نقابة اتحاد الناشرين اللبنانين"، و مجموعة العناوين الصادرة 8500 عنواناً شهرياً.

 

في دراسة أعدها  الدكتور يوسف أسعد داغر, نقرأ إحصاءً ملفتاً للجرائد و المجلات الأسبوعية و الدوريات , التي كانت تصدر في بيروت خلال سبع عشرة سنة ( 1958 -1974 )  بأنها بلغت 2032 مطبوعة (في بلد ما كان تعداد سكانه لا يزيد على 4 ملايين نسمة), عدد كبير منها إنتقلت إمتيازاته الى مؤسسات جديدة فى فترات مختلفة, فعلى مدى تلك السنوات, إنتعشت الصحافة اليومية و عكست, بحرية مطلقة, تحولات تلك المرحلة و محتواها السياسي و الفكري و الثقافى فتضاعف عدد صفحات "النهار"؛ و"الأنوار"؛ و"المحرر" ؛ و"السفير" ؛ و" الكفاح", و"اللواء"؛ "أوريان لوجور" L’Orient- Le Jour ؛ و Le Soir الناطقتين بالفرنسية,  و جريدة "دايلي ستار"   Daily Star المكتوبة بالانكليزية,  فأصدرت تلك الجرائد ملاحق مع أعداد يوم الأحد, فنية, ثقافية,         و اقتصادية و رياضية, إسوة بما كان يصدر في باريس و لندن, و الحقيقة أن الصحف البيروتية هي التي  أدخلت الملاحق الأسبوعية على الصحافة العربية. و تنافست مجلتا La Revue du Liban و Magazine على إستقطاب القراء , تقابلهما مجلة Monday Morning في التحقيقات و الخبطات الصحافية. 

 

وكان للصحافة الملتزمة انتشاراً و إزدهاراً ملفتاً, فلا غروة, في بلد منفتح على كل التيارات و العقائد والأيديولوجيات, من أقصى اليمين الى اليسار المتطرف, فكانت "العمل" الكتائبية تُصَف في أكشاك الباعة والمكتبات, الى جانب "البناء", السورية القومية الاجتماعية, و بينهما كانت "النداء" لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني, و"الأنباء" حاملة أفكار كمال جنبلاط و"الحزب التقدمي الإشتراكي", و"الأحرار" البعثية, و "بيروت", التي يمولها "بعث"العراق, و لحزبي الأرمن "هانشاق" اليساري و"طاشناق" جرائد و دوريات باللغة الأرمنية.

 

 

المجلات الأسبوعية وجدت أسواقاً فى دول الخليج , "الحوادث"؛ "الصياد"؛ "الأسبوع العربي"؛ "البلاغ"؛ "الدستور"؛       و "الشراع"؛ و "الخواطر"، و إنتشرت الصحافة النسائية " الحسناء "؛ " فيروز"... أما في الصحافة الفنية, فقد كان التنافس على أشدّه بين "الشبكة" التي كانت تصدر عن د"ار الصياد", و "الموعد", و "السينما و العجائب", و"الكاميرا"... 

 

 

وتبرز مجلة "شعر", و تتنافس مع "مواقف" (التي نشرها الشاعر أدونيس بعدما فك إرتباطه بيوسف الخال)           و المجلتان تعارضان في الفكر مجلة "الآداب" (التي كان ينشرها الدكتور سهيل إدريس, و عنها صدرت رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ التي كانت محظورة في مصر) , و "مجلة الورود" التي كان يصدرها الشاعر بديع شبلي, فعلى الرغم من محدودية انتشارها إلا أنها لعبت دورا في الصحافة الثقافية. و في مطلع السبعينات أيضاً صدرت صحف    و مجلات فلسطينية " شؤون فلسطين" ، فلسطين الثورة ", "الهدف"  التي كان يرأس تحريرها غسان كنفاني.

 

 

 

 

 

 

 

مع التطورات المتلاحقة من هزيمة 1967 الى "حرب اكتوبر" 1973 , ثم "اتفاقية كامب دافيد", قام عدد من المفكرين السياسيين, مستفيدين من مناخ حرية النشر في لبنان, من إصدار مجلات و دوريات, كانت تناقش الحال السياسية و الفكرية التي عاشها العالم العربي في تلك الحقبة, منها " دراسات عربية "؛ "الطريق "، اليسارية؛ "الفكر العربي "؛ "قضايا عربية" ؛" شؤون فلسطينية "...

 

 

 

توّجت الحياة الثقافية التظاهرات الغنائية العربية لفيروز و الأخوين رحبانى، و كان في تلك المسرحيات الغنائية, يصدح صوت وديع الصافي, و نصري شمس الدين, و صباح, و إستعاد المسرح الغنائي وقعه، مع روميو لحود, فأطلق عصام الرجي, و ملحم بركات, و سلوى قطريب و غيرهم... و هؤلاء غنوا على ألحان وليد غلمية و زكي ناصيف...

 

 

و قامت فرق مسرحية عكست الإتجاهات المسرحية المعاصرة، منها فرقة " محترف بيروت " (روجيه عساف)، و أسهم الثنائي أنطوان ملتقى و منير أبو دبس, في إطلاق" فرقة المسرح المعاصر", فقدمت مسرحية "ماكبث", لينفرد أنطوان ملتقى بعدها و يُطلق مع زوجته الممثلة المسرحية لطيفة ملتقى المسرح التجريبي, و تعددت التجارب و التظاهرات المسرحية, مع جلال خوري, يعقوب الشدراوي, شكيب خوري, ريمون جبارة, و مع شوشو (حسن علاء الدين) في "المسرح الوطني".

 

 

 

و من مظاهر هذه الحركة الثقافية و الفنية  الفوّارة مقهى " لا باليت " الذي تشكلت فيه حركة فنية ضمت تشكيليين   و نقادا و أدباء و مسرحييين, منهم فاضل سعيد عقل, و نزيه خاطر و يوسف حبشى الأشقر, و مادونا غازي,       و جلال خوري, ميشال نبعة, رضا كبريت و بول غيراغوسيان.

 

 

ولي عودة لمحركي ذلك الوعي الثقافي و الفاعلين فيه, و مدى أثره و تأثيره على الحركة الفكرية و الثقافية في العالم العربي.

                             

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز