عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الشوارع المتصلة بين الصحافة والسياسة في مصر

الشوارع المتصلة بين الصحافة والسياسة في مصر

حدث فى عام 1953 من القرن الماضى، كان (أيقونة) الصحافة السياسية المصرية الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس فى مدينة «كان» الفرنسية لحضور اجتماعات رؤساء التحرير الدوليين، وكان حينها رئيسًا لتحرير مجلة «روزاليوسف».. وهناك جَمَعَه لقاءٌ مع سكرتير المَلك فاروق.. أبدَى «إحسان» استياءَه من الهجوم المتواصل الذي يشنه المَلك على ثورة يوليو والضباط الأحرار فى الصحافة العالمية، وأنه بذلك يدفع نفسَه إلى الهلاك.



 

فرَدّ سكرتيرُ الملك: .. «أنا لا أستطيع أن أنصحه»، فقال إحسان: «أنا أستطيع أن أتحدّث إليه»، وبالفعل تم تحديد موعد له مع المَلك فاروق فى الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالى.

 

انتشى «إحسان» بشهوة السَّبق الصحفى العالمى.. أول حوار مع المَلك بعد عَزله.. ولكن زوجته توسّلت إليه ألّا يذهب.. كانت تخشى عليه من شىء ما، وبالفعل استجاب لها واعتذر عن الموعد، ثم تبيّن بعد ذلك بسنوات أن المَلك كان يرتب لاغتيال إحسان عبدالقدوس زَعمًا أن «إحسان» قدم لقتله!

 

هذه الرواية وروايات أخرى تضمّنتها موسوعة المَلك والكتابة- قصة الصحافة والسُّلطة فى مصر خلال 200 عام - للكاتب الصحفى الأستاذ محمد توفيق، الذي استضافته «روزاليوسف» فى ندوة موسّعة مع أعضاء مجلس تحريرها وكبار كُتّابها تَجد تفاصيلها داخل هذا العدد بحضور الناشر الأستاذ حسين توفيق صاحب دار ريشة للنشر والتوزيع.

 

استوقفتنى هذه القصة تحديدًا وسألت الأستاذ محمد توفيق عن توثيقها، فأبلغنى أنها وردت فى مذكرات سكرتير المَلك، ثم ردّدها الأستاذ إحسان عبدالقدوس فى العديد من الحوارات المسجلة.

 

استوقفتنى هذه القصة؛ لأن لك أن تتخيل أن المَلك كان فى اعتقاده أن إحسان عبدالقدوس أحد أهم أسباب الإطاحة به بسبب سلسلة مقالات الأسلحة الفاسدة فى حرب 1948 وكيف كان يتحايل «إحسان» على قرار منع النشر بنشر مزيد من التفاصيل فى صورة استعادة أرشيف، مؤسّسًا منهجًا فى النقد السياسى صُكّ باسمه.

 

إن الصحافة فى مصر ليست مجرد مهنة، إنها توثيق لحركة تاريخ الأمَّة المصرية يوميّا.. الصحافة تشهد عليها وتشهد هى أيضًا على الصحافة، ومن هنا كان هذا العدد الذي بين يديك سيدى القارئ قضيته الأساسية هى الصحافة؛ لأنها ليست مسألة فئوية تخص جمعًا من البشر، ولكنها قضية وطنية.

 

وبخلاف ندوة المَلك والكتابة تواصل الدكتورة «فاطمة سيد أحمد» سلسلة مقالاتها (الصحافة القومية قضيتى)، وتكتب تحت عنوان (المطبعة والمدفع)، ويقول الأستاذ إيهاب عمر كلمته من خلال تحقيق حول المال الأجنبى والمثقفين.. كيف فسدت النخبة؟

 

شارع الصحافة فى مصر ليس بعيدًا عن شارع السياسة.. أكتب هذا وبجوارى صورة السيدة «فاطمة اليوسف» مؤسِّسَة دار «روزاليوسف» للصحافة، تلك المرأة الاستثنائية فى الصحافة والسياسة، وعندما تشرفتُ بتحمُّل مسؤولية رئاسة تحرير مجلة «روزاليوسف» حرصتُ على وضع صورتها بصفة دائمة على الغلاف الرئيسى للمجلة التي تحمل اسمها وصَنَعَتها من روحها.. لكى نقول لأنفسنا إننا ننتمى إلى بلد المرأة فيه لم تكن فقط تعمل فى الصحافة قبل 95 عامًا، ولكن كانت رائدة فى صناعة الصحافة.. وهو أمْرٌ لم تعرفه كثيرٌ من الدول على مستوى العالم، ولكن عرفته مصر، فمَن ذا الذي يقول إننا عالم ثالث؟! نحن دولة متحضّرة مَهما مَرّ علينا من ظروف حتى ولو استهوتنا أحيانًا فانتازيا التخلف.

 

ارتباط «روزاليوسف» بالسياسة.. ارتباط فطرىٌّ.. رُغْمَ النزعة الفنية التي جاءت عند التأسيس عام 1925.. وذلك؛ لأن «روزاليوسف» هى المنتج الصحفى الذي خرج من رحم ثورة 1919 ومن روح الدولة الدستورية التي أنتجها دستور 1923، فكانت أول صحافة تُعبّر عن الناس، وبالتالى كانت ولاتزال الحرية والكرامة والكبرياء جينات متوارثة فى هذه الدار الصحفية التي يغلب عليها الطابع الأسَرى منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا بتناغُم فريد بين الكادر الصحفى والإداري والعمالى بداخلها.

 

لم يكن عهد فاروق نعيمًا ديمقراطيّا مثلما يظن رُوّاد السوشيال ميديا، كان عهد الدسائس والمؤامرات والاغتيالات، وكانت «روزاليوسف» تقاوم وتُحجَب وتُصادَر وتُمنَع ثم تَشترى رخصة صحفية باسم بديل وتنزل إلى السوق باسم (الصرخة)، وأول مرّة تجرّع فيها إحسان عبدالقدوس الاعتقال كانت بسبب مهاجمة الإنجليز.

 

وكانت «روزاليوسف» هى الشرارة التي مَهدت لثورة يوليو 1952، وهى الحقيقة التي درسناها فى المَدرسة قبل أن نعمل فى الصحافة.. وهى الحقيقة التي تعمّد تسويفها (تنظيم هيكل فى الصحافة) لأسباب تخص الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل وأزمته المهنية داخل «روزاليوسف» فى بداياته وتعمّد تشويهها «الإخوان» فى ظل عدائهم لثورة يوليو من جهة وكراهيتهم لـ«روزاليوسف» من جهة أخرى، وفى السبعينيات كانت «روزاليوسف» فى طليعة الإصدارات التي مهّدت للمعركة الكبرى والنصر العظيم فى الوقت الذي كان يستبعَد فيه كُتّاب كبار فى إصدارات كبرى حلم العبور.. وانحازت للشارع فى انتفاضة 1977، ودفعت الثمَن، وفى الثمانينيات والتسعينيات يشهد أرشيف «روزاليوسف» على جرأة كُتّابها ووطنيتهم فى مواجهتهم للإرهاب وشراسته، وفى العَقد الأول من الألفية من عام 2000 وحتى حادث كنيسة القدّيسين كانت «روزاليوسف» مَنصة صواريخ تستهدف كل خصوم الدولة (الإخوان - النظام التركى - النظام القطرى) فى الداخل والخارج وأثبت التاريخ أنهم كانوا ولايزالون يستهدفون مصرَ، ولم تكن قصّتهم الإدارة الحاكمة.. وعندما وصل «الإخوان» إلى حُكم مصر فى سقطة تاريخية تمسّكت «روزاليوسف» بثوابتها وكانت الإصدار «القومى» الأكثر وضوحًا فى مواجهة الجماعة الإرهابية.

 

إن هذا الاستدعاء التاريخى ليس هدفه سرد الحكايات، ولكنى أقف على قمة هرم هذا التراث الصحفى المصري المهيب لكى أشتبك مع اللحظة الصحفية الراهنة.. وهى لحظة أقل ما توصَف به أنها لحظة صعبة.. تواجه فيها الصحافة تحديات مختلفة، ولكن أخطر تحدٍّ هو فقدان الصحافة لثقتها فى نفسها ومحاولات البعض لدفع المجتمع إلى أن يفقد الثقة فى صحافته، وهى أمورٌ بالغة الخطورة على الصعيد الصحفى والسياسى والوطني.

 

إنه مُفترَق طرُق بلا مبالغة.. الحفاظ على صناعة مهمتها حفظ ذاكرة الأمَّة وجدول أعمال يومها.. الحفاظ على مهنة مهمتها إخبار المجتمع بما يُجرَى عنده وما يُجرَى من حوله ودفعه دومًا إلى التقدّم نحو الأفضل.. الانتباه إلى الكادر الصحفى نفسه وما لحق به من متاعب حياتية شغلته عن مهامه الرئيسية حتى ولو لم يُقصّر فى عمله، ولكنه بحُكم الظروف الضاغطة على المهنة أصبح مُقصرًا فى حق نفسه وحق تكوينه المعرفى وتفاعله مع العالم الحقيقى بدلًا من العالم الافتراضى.. تنمية مهاراته واكتساب المزيد من الأدوات بالتدريب والتعلم.. كل هذا تراجَع، وكل هذا فى النهاية ألقَى بظلاله على جودة المنتَج الصحفى.

 

فى مطلع نوفمبر الفائت شاركت فى ورشة عمل تحضيرية لمنتدَى مصر للإعلام عبر أحد التطبيقات، وكنتُ متواجدًا حينها فى الولايات المتحدة وتوَاجد فى الجلسة عددٌ من الزملاء من مؤسَّسَات إعلامية دولية مختلفة، وكان كل تركيزى على أمْر أراه محوريّا وهو (تأثير «كورونا» على الصناعة).. تزعجنى فكرة الاستسلام ويزعجنى أكثر الاستسهال.. المؤسّسات الصحفية وتحديدًا المؤسّسات القومية صاحبة التاريخ لديها الكثير من الأدوات التي تجعلها تكسر التحديات التي تواجهها وتعبرها.

 

والقصة ليست فى ترك الصناعة الورقية والاتجاه نحو الديجيتال.. فى الترك (جهل) والترويج له (جهل) وفى اتباع هذا المنهج كارثة.. ولكن مهمة الصحافة الورقية اختلفت عن ذى قبل، بات عليها التحرُّر من قيد الخبر والاتجاه نحو العمق التحليلى والإخبارى؛ لأن الخبر الإلكترونى يظل سطحيّا، أمّا ترند وسائل التواصل الاجتماعى (فوار) فلا يصمد أكثر من 24 ساعة.. أمّا الديجيتال فهو لغة العصر ووسيلة الاتصال الأكثر سرعة التي تتفاعل معها كل الشرائح المجتمعية والعمرية.. وسائل التواصل الاجتماعى التي حوّلت البشر إلى لوحات إعلانية للأفكار والآراء وحتى المنتجات، وبالتالى فهى تشكل رافدًا جديدًا من وجهة نظرى للصحافة الورقية فى توصيل رسالتها وليس العكس.. بمعنى أن نقطة البداية يجب أن تكون من الصحافة الورقية وينتقل المحتوَى منها إلى السوشيال ميديا، ولكن ما يُجرَى الآن هو العكس، وهذه أحد وجوه الكارثة.. ما يُجرَى الآن أن البعض وضع الصحافة الورقية تابعًا لما يدور على السوشيال ميديا وما يتم ترويجه عليه يجد طريقه إلى الورق المطبوع!.. وهذا يعيدنا مرّة أخرى إلى مسألة إعادة بناء الكادر الصحفى، وهى مهمة لا تقل أهمية عن عملية إعادة بناء الكادر السياسى، التي بدأت تجد طريقها بشكل واضح فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية وكان ثمرة إنتاجها (تنسيقية شباب الأحزاب).

 

إذا كانت كل معارك مصر تحسم بكلمة (الوعى)؛ فإن إعادة بناء الكادر الصحفى الآن واجب وطني، وهذه المهمة تستدعى حضور الدولة ودعمها.. وللحديث بقية.

 

من مجلة روزاليوسف

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز