إبراهيم نصر
فتوى نشاز
بداية أود التأكيد على ما ذكرته في المقال السابق، من ضرورة احترام التخصص، وعدم أخذ الفتوى إلا من فقيه، تمرس على الفقه حتى صار له سجية.
وفي ظل فوضى الفتاوى على الفضائيات، لا بد من وضع ضوابط لمن له حق الفتوى على الهواء، والعودة إلى نظام الإجازة للإفتاء، كما هو الحال في القراءات القرآنية، فهذا يمكن أن يسهم في الحد من جرأة المشايخ على الإفتاء في كل ما يعرض عليهم من أسئلة، دون أن نسمع مرة واحدة من أحدهم عبارة: "لا أدري" التي كان يقولها أئمة الفقه العظام أصحاب المذاهب الأربعة، في كثير من المسائل التي كانت تعرض عليهم في مجالسهم، ومن مقولات الحكماء: "من قال لا أدري فقد أفتى" وهي ليست حديثًا نبويًا كما يعتقد البعض، والمقصود بها أنه لا يجوز للمسلم أن يقول في دين الله ما لا علم له به وليس خبيرًا وفقيهًا فيه وغير محيط بأحكامه، وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: "الله أعلم".
وقال الإمام مالك: من فقه العالم أن يقول لا أعلم، وقد ذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" في فصل "من قال لا أدري فقد أفتى"، أنّ مالك بن أنس روى أنّ رجلا سأله عن مسألة فقال "لا أدري" فقال الرجل: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك وقل: سألت مالكًا فقال "لا أدري"، وكان علماء الصدر الأول يفصحون عمّا لا يعلمون باعتداد ودون حرج، حتى لا يقولوا على الله ورسوله ما لا يعلمون.
والإمام مالك هو أحد الأئمة الأربعة من أهل السنة: "مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة" وهو من مجددي أمور الدين في القرن الثاني للهجرة، حيث ولد عام 93هـ وتوفي عام 179م عن ستة وثمانين عامًا، وكان محدثًا وفقيهًا يتحرى الدقة في الرواية والفتوى والموضوعية، خاصة في الرجوع إلى الأحاديث النبوية حيث لا يأخذها عن ذي هوى مبتدع ولا من شيخ لا يعرف ما يحمل من فقه يحدث به، وهو منهج نقف على ملامحه بجلاء في كتابه "الموطأ" وبقية كتاباته التي جمع فيها ما تأكد من صوابه وصحته من الأحاديث النبوية، وكان على غرار من سبقوا من الصحابة والتابعين ويشبههم في أمور من أهمها عدم التشدد في أمور لا تقتضي ذلك وعدم التعصب لرأي قاله في يوم ما وظهر ما يخالف أو يتعارض مع رأيه.
كان الإمام مالك شديدا جدا في تأكده من علمه في الفتوى، ودقيقا جدا في صحتها، وإذا لم يكن متأكدا من مسألة ما، لم يكن ليجرؤ على الحديث فيها، يقول الهيثم بن جميل: كنت ذات مرة مع الإمام مالك عندما سئل أكثر من أربعين سؤالا، وسمعته يرد: لا أعرف على اثنين وثلاثين منهم. وقال عنه الإمام الشافعي: عندما يذكر العلماء، يكون الإمام مالك نجما بينهم.
ويقول الإمام مالك عن نفسه إنه لم يجلس لإعطاء فتوى، قبل أن يجيزه عليها لأول مرة سبعون عالما من المدينة، وقال عن كتابه الموطأ: عرضت كتابي على سبعين من علماء المدينة، وكلهم وطّأني عليه- أي وافقه عليه- لذلك سمّاه "الموطأ".
بعد هذا البيان الوافي لخطورة الفتوى، وعدم الاجتراء عليها إلا بعد إجازة سبعين عالمًا، فأجيبوني بربكم: من أجاز هؤلاء المشايخ الذين تضج بهم الفضائيات ويطلقون فتاواهم في الفضاء الواسع؟
استفزني لكتابة هذا المقال الدكتور مبروك عطية، الذي قال فتوى أقل ما توصف به إنها نشاز، إن لم تكن شاذة، حيث اشترط لمن يقدم على التعدد في الزواج أن يكون مليونيرا، ولمن يقدم على الزواج الأول أن يكون قادرا على توفير شقة تمليك، وأن يجهز شقة الزوجية بما يزيد على ٣٠٠ ألف جنيه كما فعل هو في زواج ابنه! وإني أسأل الدكتور مبروك: من أجازك للفتوى؟