عاجل
الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الصور الذهنية للإبداع في مصر الآن

الصور الذهنية للإبداع في مصر الآن

في ازدياد ملحوظ لظاهرة اختفاء الدور الاجتماعي والجمالي في الفنون الجماهيرية في مصر، ومع التراكم الكبير لفنون التسلية، كدنا نفقد ذلك الدور المهم للفنان. 



إن القرن العشرين في العالم أجمع، وفي مصر، شهد صعوداً أخلاقياً للدور المهم للفنون والآداب، حتى كاد الفنان والأديب أن يصبح واحداً من صناع القيم الإنسانية، التي منحت عمل الفنان والكاتب صفة شبه مقدسة، وصار الكاتب والفنان هو ذلك الشخص المنحاز لقيم الحق والخير والجمال. 

 

بعض من فناني القرن الحالي، ومع بداياته تبنوا دعوة لإسقاط هذه الهالة الرائعة للمبدع. 

وبعض من فناني ما بعد الحداثة أخذوا الإبداع والكتابة فى اتجاه مثير غرائبي، يبتعد بالفنون عن دورها المهم في دعم البشر. 

صاحب تلك الهالة المقدسة للإبداع أدوار اجتماعية أخرى للفنان والكاتب، كانت واضحة في دعم القضايا الوطنية وحقوق الإنسان والانحياز للفقراء. 

 

وفى مجال الإبداع المسرحي، حيث المسرح هو الاتصال المباشر مع الجمهور حظي المسرح في جميع أنحاء العالم في القرن العشرين بفرص التفاعل المباشر مع قضايا التعليم والصحة وتحرير الفقراء من ظلام الفقر وصفاته السلبية التي تسحق الإرادة الإنسانية. 

 

وفى تجربة أمريكا اللاتينية، وبالتحديد في البرازيل تم استخدام المسرح في محو الأمية الثقافية عن طريق المسرح التفاعلي، وبرز الدور الاجتماعي للمسرح في تجربة المسرحي الشهير أوجست بوال في المناقشة وإعادة تدريب البشر المهمشين على الأفعال الإيجابية الصغيرة، وبفنون ذات صلة مثل استخدام مخلفات البيئة أعاد الفنانون التشكيليون في البرازيل تشكيل الشوارع بالجمال في أكثر الأحياء فقراً هناك.

 

إنه االمسرح والشأن الاجتماعي المباشر، وقد كانت تجارب مسرح الشارع ومحو الأمية، والتعليم حاضرة فى مصر والوطن العربي، بل وحضرت أيضاً تجارب العلاج النفسي بالفن، وإعادة تأهيل المتعرضين للعنف الاجتماعي والضعفاء والمهمشين. 

 

خلال ذلك صعد بشكل واضح الدور المهم للكاتب والفنان في الأعمال الإبداعية الكبرى في مصر والعالم، شهد المسرح المصري والفنون الجماهيرية الأخرى مثل الغناء والسينما دوراً اجتماعياً مهماً أسهم في تشكيل الوجدان والقيم، وأصبح الفنان والكاتب في مكانة اجتماعية محترمة. 

 

ثم ومع السنوات الأخيرة التي شهدت انتشاراً كبيراً لموجات التسلية والفنون السهلة التجارية، وظهور نجوم جدد في الإبداع والكتابة لا يهتمون بهذا الدور، سقطت بالتدريج إلا قليلاً تلك الهالة المقدسة للإبداع، خاصة مع غياب الدور الاجتماعي للفنان والكاتب في العمل العام على المستوى المباشر، وهو الدور الذي يقوم به الفنانون والكتاب، الذين حصدوا الشهرة والثروة في كل أنحاء العالم. 

معظم نجوم الخير في مصر تبرعوا بملايين كبيرة لأعمال خيرية مستقرة وقائمة مثل تبرعهم ودعمهم المهم والمقدر لمستشفى سرطان الأطفال. 

 

وجدير بالذكر، أن هؤلاء النجوم لم يمارسوا الإعلان بالتفاخر بثرواتهم، فلم يطل علينا النجم الكبير عادل إمام من طائرة خاصة، وليس له صور مع سيارات فارهة. 

بعض من النجوم الكبار تصرفوا وكأنهم يكرهون الثروة. 

العبقري الراحل أحمد زكي، باع بيته لاستكمال إنتاج مشروعاته السينمائية المهمة، وأعلن أنه يشعر بالحرية كلما اقترب من فكرة العودة للإقامة بفندق بسيط، كما جاء في بداية الرحلة من الشرقية. 

لا نجد لنجيب محفوظ أية مظاهر ترف معلنة، حتى عندما حصل على جائزة نوبل. 

كتب حلماً كابوسياً في مجموعته الأخيرة "أحلام فترة النقاهة"، وصف فيه الجائزة بقيمتها المالية كقنبلة تنفجر فيه وفي أسرته. 

بدا في لاشعوره يكره الثروة الكبيرة، فقد عاش واحداً من الناس على حافة الطبقة المتوسطة المصرية، الكتابة لديه دور وقيمة ووظيفة.

 الناقد الكبير الراحل فاروق عبد القادر، الذي ظل عمره كله يأكل من عمل يده، عندما هبطت عليه جائزة "العويس" بمبلغ كبير، لم يهدأ له بال إلا بعد أن تخلص منه، وقد شاهدته يوزع الأموال الكثيرة على معارفه المهمشين القدامى في شوارع وسط المدينة، هؤلاء الذين أحاطوه بالمحبة في المقاهي والمطاعم البسيطة، بل وعدد من الكتاب المهمشين الفقراء كانوا محلاً لكرمه الواضح. 

كان يتصرف كأنه في مسابقة مع الوقت للتخلص من المال الوفير. 

لم نشهد هذه المشاهد الغرائبية إلا في الفترة الأخيرة. 

ولكن تظل الملاحظة العامة على أصحاب الثروة من نجوم الفن والإبداع، أنهم لم يقدموا مشروعات مهمة مبتكرة، أو يدعموا الإبداع بكيانات مهنية. 

لم يقدم هؤلاء على إنشاء دور للعرض المسرحي، أو بناء مجمعات فنية للسينما، أو إنشاء معاهد أهلية لتعليم الفنون. 

لم يدعم أحد منهم إمكانية ابتكار مشروعات لإيواء المشردين من كبار السن، أو افتتاح بيوت لأطفال الشوارع، أو مدارس أهلية للصنائع والحرف. 

بل لم يهتم أحد بوجود مركز حضاري، لحفظ ونشر وإعادة إنتاج التراث الشعبي. 

بل ولم يوظفوا ثرواتهم نحو استقلال فني إنتاجي يحقق لهم الاختيارات الفنية رفيعة المستوى، أو اهتمام بمشروعات فنية خاصة. 

إنهم يفتقرون لمبدأ المبادرة، بل ويندر وجود المشروع الفني الخاص. 

لم يتعلم أحد من درس نجيب الريحاني، ذهبت ممتلكاته وثروته، وبقي مسرحه الذي بناه لمصر وللجمهور ولإخلاصه لفن المسرح، قائماً حتى الآن في شارع عماد الدين. 

وهي ظاهرة حاضرة في العالم الآن ليس أبرزها تبرع جورج لوكاس الممثل الأمريكي الشهير بخمسة وعشرين مليون دولار لجامعة شيكاغو لبناء مبنى خاص بتعليم الفنون. 

أما أكثر المشروعات الإنسانية طرافة وبهجة وبساطة، فهو المشروع المهم الذي هو الآن مؤسسة خيرية كبيرة أصبح لها موازنة كبرى، ألا وهي "مطعم القلب"، فمنذ خمسة وعشرين عاماً انتبه الفنان الكوميدي الساخر كولوش للجياع في فرنسا، فقام بتأسيس مطاعم القلب لإطعام الفقراء مجاناً. 

الآن وبعد رحيله بلغ عدد مطاعم القلب مئتين من المطاعم الدائمة، غير عربات نقل الطعام للفقراء في الأحياء البعيدة، رافعاً شعاراً ساخراً ليس من حق أحد اليوم أن يشعر بالجوع. 

هؤلاء عباقرة في إبداعهم وفنونهم، التي صنعت الجمال والإنسانية.

أما تجار الفنون الذين حققوا أرباحاً خيالية من تخدير الفقراء وإلهاء والناس واللهو بالجماهير، فهم لا يفكرون إلا في الزهو العلني بالأرباح الكبيرة. 

علاقة وطيدة بينهم وبين الثروة والفن الرديء. 

أخطر ما في أثرهم أنهم قاموا بالإساءة البالغة للصورة الذهنية للفنان والمبدع لدى الجمهور العام. 

بالتأكيد نجوم الخير في مصر لهم حضورهم الواضح، ولكن تبقى تلك الملاحظات، حتى يعود الدور الاجتماعي للفن، وتعود له هالته الإبداعية المضيئة، يحتاج الفنان المصري جهداً كبيراً، الآن، لاستعادة قيمة المبدع ودوره الوطني والفني والإنساني. 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز