طارق رضوان
مازلت معلقا فى القلوب يا جمال
لم يكن فردًا.
بل كان حلمًا. أملاً. أسطورة. فى انتصاراته أسطورة. وفى انكساراته أسطورة. كان الرئيس جمال عبدالناصر حكاية وطن. حكاية تروى ويعاد حكايتها. مات الرجل منذ خمسين عاما، ومازال منقوشا على وجه الأمة وعلى جدران بيوتها الطيبة. مازال الطيبون البسطاء يعلقون صورته على جدران بيوتهم الطيبة الدافئة ودكاكينهم ووسائل مواصلاتهم. مازلت معلقا فى القلوب يا جمال.
ضرب فيضان النيل الوحشى النجاشى السودان منذ أسابيع. فظهرت قيمة ناصر. وهو الحاكم الوحيد على مدار تاريخ تلك الأمة الممتد لسبعة آلاف عام الذي طوع نهر النيل وقهر فيضانه المدمر. كل من سبقوه عجزوا عن تطويع النيل وعن قهر فيضانه الكاسح. من يريد أن يعرف قيمة هذا الرجل عليه أن ينظر بالفحص والدرس ما تعانيه السودان الآن. هكذا كان حال مصر كل عام. هذا الدمار الشامل كان يتم بحذافيره كل عام فى نفس التوقيت فى مصر. وكان حلم جمال أن يقضى على تلك المهزلة السنوية. وبنى السد العالى. أعظم المشاريع الهندسية بالقرن العشرين. كان ناصر يبنى للمستقبل. وأمامنا تجربة حية لما يفعله الرئيس عبدالفتاح السيسي وهو يبنى للمستقبل دون النظر للانتقادات والغمز واللمز من كل اتجاه. هكذا حال البنائين فى مصر منذ الملك خوفو بأنى الهرم الأكبر الذي ترك لنا إرثًا معماريًا أسطوريًا مازال من أهم البنايات فى العالم على مدار التاريخ. رغم أن الدولة أفلست وقت بنائه. لناصر أخطاء نعم. ولناصر انكسارات نعم. لكنه لا بد أن نعرف ونعى معنى إخفاقات حاكم من الشرق. لحكام الشرق أسلوب فى إدارة الحكم. تناسب تماما الحالة المزاجية والاجتماعية والسياسية فى بلاد الشرق. قد يرى كثيرون أن الرجل يتعرض لحملات منظمة للنيل منه. وينظم البعض هجوما مكثفا للقضاء على سيرته وفترة حكمه وأسلوب إدارته للبلاد. وهو ما يدل على أن الرجل يؤرق الكثيرين وهو فى قبره. لا يملك حق الرد. ولا يملك حق الاعتراض. لأن ناصر كان أسطورة. فكان الهجوم عليه مكثفا. كثير من الهجوم مدفوع من دول نفطية ليدفن الرجل وتدفن معه أسطورته إلى الأبد. فأطلقوا عليه المهزوم ولصقوا به كل هزيمة ونسوا أن أعظم السياسيين فى العصر الحديث هزموا بل ودمروا أكثر من جمال عبدالناصر. فقد هزم نابليون بونابرت وسحق جيشه وانتهت جمهوريته. ومن بعده شارل ديجول مؤسس الجمهورية الخامسة لفرنسا احتل النازى بلاده وكان هو يمارس النضال من على المقاهى كما قال تشرشل. وهزم ونستون تشرشل أعظم سياسى فى التاريخ الحديث ودمرت لندن. لكن لم يستطع أحد الاقتراب منهم كما نفعل نحن مع ناصر. عندما ظهر الرجل على المسرح كبطل أوحد اختلفت عليه القوى العظمى. ولأن عالم السياسة ممتلئ بالألغاز والأسرار فلن نعرف الحقيقة الكاملة. إلا أن ناصر كان مشروعا أمريكيا خالصا من الأساس. استغله ناصر لمصلحة بلاده. حقق ناصر كل الأغراض الأمريكية وقت ظهوره على المسرح. بل وساعد الإمبراطور الأمريكى الجديد المتعطش لدخول الشرق الأوسط. بل كان ناصر واحدا ممن قضوا على أقدم إمبراطوريتين فى التاريخ الحديث وهما البريطانية والفرنسية ومهد الطريق للولايات المتحدة للدخول والانتشار والتسيد. إلا أنه كان واعيا للخط الفاصل ما بين الحاكم العميل الأمريكى وما بين التوازنات الدولية من أجل مصلحة بلاده. كان لناصر خط مفتوح مع المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). إما بشكل مباشر كما فى بداية ظهوره أو عن طريق وسطاء. عن طريق الصحفى الفذ مصطفى أمين أو عن طريق الأستاذ محمد حسنين هيكل أو عن طريق رجال غامضين. لكن ناصر كان يعى جيدا مقدار القرب والبعد. مقدار المسافات ما بين رئيس دولة بحجم مصر وإمبراطورية بحجم الولايات المتحدة. عندما تولى داويت ايزنهاور الحكم عام 1952 على وجه التحديد. وعد جون فوستر دالاس وزير خارجيته بإضفاء نيولوك ليس فقط على ما قاله الحزب الجمهورى عن أخطاء سياسة الاحتواء التي اتبعها ترومان فى شرق أوروبا وآسيا بل أيضا فى الشرق الأوسط بخاصة. وزعم أن السياسة الأمريكية لم تكن منصفة. فى إشارة واضحة إلى الدعم الذي ظلت واشنطن تمنحه لإسرائيل منذ لحظة اعتراف ترومان الفورية بها. رأى دالاس أن التحدى كان هو حرف انتباه الشرق الأوسط عن مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى وتوجيه عواطف الشعوب باتجاه حملة صليبية عالمية معادية للشيوعية. وعندئذ كان الأمل هو إقناع العرب بالسلام مع إسرائيل. ومع زوال التهديد الأمنى سيكون أيضا من السهل إقناع إسرائيل بتعيين حدود دائمة لها. وأعتقد أن مصر هى مفتاح حل المعضلة. وجرت مياه كثيرة فى النهر. وبعد اعتلاء ناصر عرش مصر كان صوب عينيه بناء البلاد التي تسلمها شبه خاوية من مظاهر الحضارة الإنسانية التي تسود المجتمعات الكبرى والتي يرى ناصر أن بلاده ليست أقل من أن تكون على مقربة من تلك الدول ولو بخطوات قليلة. كانت له قضايا كبرى ومشاريع داخلية وخارجية تكونت مع السنوات لتكون منهجا سُمى بعد أعوام قليلة من بداية نجاحه (بالناصرية). كان ناصر على اتصال وثيق بالسفير الأمريكى كافرى جيفرسون. كان لناصر هدف وكان لكافرى هدف – ذلك المصري الأسمر المهيب مؤهل للاضطلاع بمهام كبرى – على حد قوله. وبعد مضى أكثر من عامين من ثورة يوليو. كانت مصر مازالت تضغط من أجل تلقيها معونات عسكرية طلب ناصر ما قيمته 40 مليون دولار من السلاح. ثم خفض طلبه إلى ما قيمته 20 مليون دولار. ثم فى النهاية إلى معدات لا تزيد قيمتها على مليونين أو ثلاثة ملايين دولار تستخدم فى استعراضات الجيش – الخوذات. أجربة المسدسات. وأنواع أخرى من المعدات البراقة التي تجذب الأنظار أثناء استعراضات الجيش فى شوارع القاهرة. وهنا ظهر غضب إسرائيل. لأنها دائما تحافظ أن تكون الخادم الوحيد والأمين فى المنطقة. فالصراع المصري الإسرائيلى فى أحد أهم جوانبه وأحد أهم عناصره هو الخدمة المميزة للإمبراطورية الكبرى. إسرائيل تشعر بجنون عندما ترى مصر فى شهر عسل مع الولايات المتحدة. تنفذ ما تحتاجه. وتزداد ألعابها الاستفزازية للوقيعة ما بينهما. ومصر من أهم الدول لتحقيق مصالح الإمبراطورية. فهى دولة حسنة السمعة. ليس لديها مشروع استعمارى كإيران وتركيا. وهى دولة لها تاريخ طويل فى قيادة المنطقة وبمجرد استلام الأمريكان حكم العالم من الإنجليز. كانت مصر هى أهم أهدافها وهو ما التقطه ناصر. كانت لقاءاته مع السفير الأمريكى مستر جفرسون كافرى لا تنقطع. كانت العلاقات المصرية الأمريكية حتى عام 55 فى أوج قوتها وهو ما أثار غضب إسرائيل وبدأت فى الهجوم على غزة. مما أثار غضب عبدالناصر وطلب سلاحا من الولايات المتحدة الأمريكية ورفضوا. وهنا قرر ناصر شراء السلاح الروسى من تشيكوسلفاكيا. ولعب اللوبى اليهودى دورا كبيرا فى رفض الإدارة الأمريكية تمويل مشروع السد العالى. ما جعل عبدالناصر يقطع علاقته نهائيا بالأمريكان. وهو ما ذكره إيزنهاور فى مذكراته نادما على خسارة عبدالناصر. إذ قال فى حضور مساعده شيرمان أدمز رئيس موظفى البيت الأبيض ووزير خارجيته جون فوستر دالاس. لا بد أن نسلم أن عبدالناصر زعيم جدير بالزعامة. فلديه أعصاب. ولديه الكفاءة. وللأسف أنه ليس فى صفنا. هكذا كان جمال. لذلك لم يمت جمال. عاش جمال عبد الناصر.•