عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الداعية والولد الشقي والراهب ! 1-2

الداعية والولد الشقي والراهب ! 1-2

الداعية



 

من حق ثلاثة، مرّوا في حياتي عبر سنوات عشر، في « روز اليوسف» و «صباح الخير»، أن يطرقوا خواطري، وأن يرشفوا في ألفاظي قليلا من الحياة، فانهم، برّد الله ثراهم، أثروا حياتي بصداقتهم، وعلمهم، وثقافتهم، وفكرهم، وكدّهم وراء الحرف والكلمة، تركوا بصماتهم في خالد أعمالهم، ولم يبق لهم في سبيل الى الضياء، إلا هذه الأحرف السوداء، التي تضيء فيهن خواطري عنهم و عن أيامي معهم:

 

هم الداعية والولد الشقي والراهب.

 

أصدر إحسان عبدالقدوس قرارًا، أصبح تقليدًا فيما بعد، يسمح لكبار الكتاب بتسليم مقالاتهم مباشرة الى قسم التنضيد والجمع، من دون أن تمر تلك المواد على إدارة التحرير، أو حتى الشيخ رزق أو زميله محمد التهامي، الذي أصبح رئيسًا لتحرير « روز اليوسف».

 

وكان إحسان عبدالقدوس يرمي من ذلك القرار، الى تقدير مكانة كتّاب المؤسسة وعلوّ قدرهم، وكان الدكتور مصطفى محمود على رأس هؤلاء… فكان يسلم مقاله الأسبوعي الى الحاج حسن، رئيس قسم التنضيد والجمع، ونسخة لرجائي ونيس، الذي كان يطرز المقالات برسوماته المبدعة الخلابة، فتصل مكتبي سلخة (بروفة) من مقاله لتصميم صفحته.

 

في غرفة الرسامين، التقيته أول مرة، وبعدها كان متى عرّج على المجلة، لا يفارق مكتبي، يلذّ له مراقبتي وأنا أصمم الصفحات، وأجادل ، وأناقش، وكان يلذ لي سماعه. تلمسك مهابته، يقول فتنصت، يشرح فتقتنع، تقرأ، فتطرب، وتنشغل بالتفكير بما قرأت.

 

 

 

في أحايين كثيرة، بعد تسليم مقاله، كان يجلس إلى الفنان ناجي، يسحره عزفه على الناي، فهو عزف أيام دراسته الجامعية على ناي أضاعه بين أشياء ضاعت منه. وفي مذكراته حكى عن علي عبد العزيز، عازف الكمان، والراقصة سوسن، وهما  يتشاركان في إدارة  فرقة تحيي الأفراح و حفلات الطهور، وكيف طلب الانضمام الى فرقتهما عازفًا على الناي، من دون أي مقابل مادي، لأنه كان مولعاً بالعزف، و لن يبتغِ يوما احتراف العزف، وترك دراسته الجامعية.

 

وما لم يقله مصطفى محمود في مذكراته، قالته زوجته الأولى، إذ أسرّت بأنه كان يملك « حنجرة ذهبية »، وبحّة حنونة في نبرات صوته تزيده جمالًا، وكان دائما في ساعات خلوّه من هموم البحث والكتابة يدندن على العود.  

 

 

 

سنة ١٩٢١، في « شبين الكوم » (محافظة المنوفية)، فتح مصطفى محمود عينيه على النور، من صغره كان متفتح الذهن، إلى ذكاء حاد، وقدرة فائقة على الحفظ، ولما علت به السن، درس الطب، واختص بجراحة المخ والأعصاب، إلا أنه أحبّ القلم والورق وفضّلهما على المبضع والمشرط، فحذا حذو الدكتور يوسف إدريس، وانصرف الى الكتابة في الجرائد والمجلات، وفي كتب أصدر منها ٨٢ كتابًا، في العلوم، والفلسفة، وعلم الاجتماع، والسياسة، والدين، والقصة، وأدب الرحلات، والمسرح.

 

 

 

ومثله مثل العديد من المفكرين، دخل مصطفى محمود في مرحلة الشك، والبحث عن الله، واحتاج الأمر، كما اعترف هو على الملأ، الى « ثلاثين سنة من الغرف في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس  وتقليب الفكر على كل وجه لتقطع الطرق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين».

 

 

 

والكثير مما كَتَبه وطَرَحه، قبل وصوله الى اليقين، كان صادمًا لعقول صدئت من عدم التفكير، والتساؤل، والسعي لإيجاد الإجابات، وعدم قبول الإختلاف، والرأي المخالف، المعاند، الباحث عن الغوامض، وأهم ما كتب في تلك المرحلة «الله و الإنسان» فوسموه بالكفر و الإلحاد، و طالب الرئيس جمال عبدالناصر، تحت ضغط شيوخ الأزهر، بمحاكمته، إلا أن سعاة الخير أثنوا الرئيس عن غيه، و ليّنوا موقفه، فاكتفى بمصادرة الكتاب و منع إعادة طبعه… إلا أن نسخًا منه كانت سُربت، فطُبع خارج مصر، وانتشر، وأثار جدلا، الكلام حوله حبله طويل، فسار ذِكر الدكتور مصطفى محمود كل مسير، وذهب سمعه في الناس.

 

ولم يكّف المشايخ  الإتباعيين والدوغمائيين عن التشهير به واتهامه بالكفر والإلحاد، فلم يُكسر، مضى غير هيّاب، يعابث المسَلَمات بحثًا عن الحقيقة، لم يهن، ولا كُسر قلمه، ولم يأبه في الحق للومة لائم.

 

وخلافًا لما زعموا، فإن مصطفى محمود، طوال فترة شكّه، لم ينكر وجود الله، إلا أنه كان عاجزًا عن إدراكه، وعن التصور الصحيح لخالق هذا الكون. 

 

ولما طَرَق باب العلم، يرسل أصابعه من خلاله في دقائق أسرار الحياة، ولم يجد جوابًا لأسئلته، جَنَح الى الأديان السماوية، فتعمق في البوذية، والبراهمية، والزردشتية، ومارس تصوّف الهندوس والسيخ القائم على وحدة الوجود، حيث الخالق هو المخلوق، والرب هو الكون في حد ذاته، وهو الطاقة الباطنية لجميع المخلوقات… وفي آخر الدرب الشائكة المضنية، استقر على سجادة الصلاة  وأعطى وجهه للقِبلة.

 

كان مصطفى محمود يُضٌفر في كتاباته أدبيات العلم، فيقدم الكل بواقعية رمزية تسهيلًا للمدارك، مُظهرًا فكره الطلّاع وكثير محفوظه، فكان الى ذلك، صاحب ميسم خاص في الكتابة، أسلوب مميز متمايز، لا تخطئه العين. ومن لم يكن يقرأ له، كان يشاهده على الشاشة الصغيرة، في برنامج « العلم والإيمان»، الذي قدم منه ٤٠٠ حلقة، ومن خلال هذا البرنامج تبلور فكره الصوفي وبَرَز زهده.  

 

 

في حديث صحفي مع ابنته و صديقته الوحيدة " أمل " من زواجه الأول، عن والدها الذي كان يحرص علي الفضفضة معها بأشياء كثيرة علي سبيل السرية التي لايعرفها سواهما، والذي قال لها (ذات مرة سأل شيخاً عن سبب وجود الذباب و الحشرات في المنزل، فأعطاه هذا الشيخ ورقة،  وطلب من والدي أن يضعها وسط المنزل. 

 

وقال: "اطمن يا مصطفي مش هتشوف حشرات تاني"، وبعد أن فعل أبي ذلك وجد أن الحشرات كما هي، فعلم أن هذا الشخص وأمثاله جاهلون، فبدأ عدم الثقة في هؤلاء، وزادت مساحة الشك داخله حتي لم يعد مقتنعاً بأية مٌسلمات، حتي وصل إلي ما وصفوه بـ" الإلحاد"، وظلّ هكذا حتي نهاية تعليمه الجامعي تقريباً عندما إكتشف الحقيقة كما قال و عاد الي اليقين).

وتضيف أمل أنه شك في كل شئ إلا وجود خالق، كان بداخله قناعة أن هناك مُنظِماً لهذه الدنيا و لا يمكن لعاقل أن يغيب عن هذه الحقيقة ، وكان الشك حسب قوله  في أشياء مثل من هو الخالق ، و الحساب  والبعث ، ومرحلة ما بعد الموت، وهل الانسان ستنقطع علاقته بالله بعد أن يواري الثري أم لا؟  وهل سيعيش الأحياء جميعاً في عالم آخر بعد هذه الدنيا، وكيف تكون شكل الحياة بعد الممات ...... إلي نهاية هذه الاشياء التي ليس لها حدود.

 

 

 

أبحر مصطفي في القراءة في كل الأديان، وعرف ما لا يعرفه أهل تلك الديانات أنفسهم حتي أصبح عالماً بخفايا وعمق تلك الاديان، وقال: "أكتشفت أشياءً لم أكن أتخيلها، ولم أترك شيئاً خاصاً بالقرآن الكريم إلا واطّلعت عليه، وقرأت لفلاسفة الأديان حتي وصلت الي اليقين النهائي " .

 

 

 

ربطت الصداقة د. مصطفي محمود بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وكانت لهما جلسات وأحاديث ينزل فيها الكلام علي قضايا كثيرة، منها حُرمانية الفن أساس الجدال بينهما، فقد كان مصطفي محمود يري أن الفن مثل أشياء كثيرة يمكن أن يكون حلالاً، إذا قدم أعمالا مفيدة هادفة، وهو نفسه كان يحب الموسيقي و الغناء.    

     

و عندما سأله عبد الوهاب في هذا الموضوع، قال له " ليس من الطبيعي أن يقابل الفنان ربه بمجموعة  أغانِ"، وقال له " يعني هتروح تقوله بلاش تبوسني في عينيا، ولاعب الكرة هيقابل ربنا يقوله أنا جايبلك شوية أجوان، لكن يجب أن يلاقي كلا منا الله عزّ وجَل بأعمال أخري تكون في ميزانه عند الحساب ".

 

ودارت الأيام دورتها، تركت مصر المحروسة في هجرتي الأولي، وحطّ بي الرحيل في بيروت، فقيّض لي أن ألتقي الدكتور مصطفي محمود مرات عدة في العاصمة اللبنانية، أثناء مروره بها عائدًا من المملكة العربية السعودية، فقد كان يطيب له المكوث أسابيع في بيروت، التي كانت وقتها تغلي وتفور بالثقافة والفنون والنشر، وكان يحب النزول في فندق “مرحبا” في منطقة “الروشة”، فألتقيه فيه، كان يدير الأحاديث على مواضيع متشعبة، وهو من ألطف الناس خروجًا إلى حديث نوادر، خفيف الظل، هادئ النبرات، لازم الصدق فلم تقع منه هنوات.

 

أخبرني مرة أن الرئيس أنور السادات، الذي كان من المعجبين بفكره وكتاباته، عَرَض عليه الوزارة، فرفض العرض، ولما استغرب الرئيس قال:

 

« يا سيادة الرئيس… أنا فشلت مرتين في إدارة مؤسسة صغيرة، وهي الأسرة، فقد تطّلقت مرتين، فكيف بي أدير وزارة كاملة؟».  

 

 

يوم السبت، ٢١ من أكتوبر سنة ٢٠٠٩، أسلم مصطفى محمود الروح، بعد جلطة أقعدته، وعزلته عن العالم، كان في الثامنة والثمانين من سنيه.

 

لم يحضر أي مسؤول سياسي أو مشهور في الأدب والفن والصحافة والطب تشييع جثمانه، في جحود عزّ نظيره. 

 

تركوه يمضي إلى الرقدة الأخيرة وحيدًا، هو الذي أنار دربهم، وعلّمهم، وأعطاهم ما لم يُعطِه أحدا من قبل... مصطفى محمود، كان الفيلسوف، والمفكر، والكاتب، والقاصِ، والزاهد، والمتصوف، والداعية، والطبيب الذي أسَر القلوب وأستأثر بها واستلبها.

 

لم يكن مصطفى محمود مجرد كاتب، يدبج على الورق مواجيد نفسه وعلمه، إنما هو تيار، ومنهج، ودرب، وأسلوب حياة.

 

مصطفى محمود باقٍ على مر الزمان.  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز