سهام ذهنى
بائع الفريسكا ينتصر على المتحرشين
من سيرة الجنس إلى سيرة الحب، هذه هي النقلة التي حققتها حكاية إبراهيم عبد الناصر، خريج مدرسة شهداء 25 يناير للمتفوقين بالإسكندرية، بائع الفريسكا، الذي يستعد للالتحاق بكلية الطب جامعة الإسكندرية.
تعلق الناس بالحكاية، أو تشبثوا بها، حيث جاءت في وقتها. ففي عز التشبع بتفاصيل مخططات الصحفي المغتصب ضد البنات المتدربات، وبشاعات الشباب الثري في الفندق الأنيق وسيل شهادات لفتيات تعرضن للتحرش أو الاغتصاب بكل ما في هذه السيرة من أجواء مقززة، إلى سيرة التعلم والمذاكرة وبذل المجهود، من أجل اللقمة الحلال، مع الانشغال بإنجاز ما يُدخل السرور والفرحة على قلب الوالد المكافح، والتوكل على الله الرزاق. فإذا به يبدو كطاقة نور تبعث بالأمل وسط الإظلام. حيث أخرجت حكايته ذهن المتابعين لأحوال الحياة في مصر من بشاعة الحكايات الجنسية المخزية، التي تدور في الضوء المظلم ورائحة العرق والخمور، إلى حكاية حب تحت نور الشمس، وفي حضن البراح ورائحة البحر المنعش. فحين رأينا أن أول إجابة لبائع الفريسكا الحاصل على99.6% في الثانوية العامة عن سبب التحاقه بكلية الطب، قد جاء فيها: "عشان أفرّح أبويا"، وجدنا أنفسنا أمام أحد أجمل ما في الحكاية، أب أخلص في التربية، وابن بار بالأب، وجدنا أنفسنا أمام حكاية حب. ما كل هذا الحب في معناه الواسع والبر بالوالدين والنقاء، وما هذه الابتسامة الصافية ونظرة العين الراضية، التي تبدو كثوابت في حياته، حيث تشعر بأنه لا يتعامل مع مسألة قيامه ببيع الفريسكا كعبء أو عمل شاق مضطر إليه للمساهمة في مصاريف الحياة، وإنما تشعر في حمله لصندوق الفريسكا وتحركه به أنه يحب عمله، وأن هذا الحب قد تحقق من خلال تركيزه على جوانب جميلة فيه، على الرغم من المجهود، فصحيح الجو حار، إنما قدماه تترطب في ماء البحر أثناء سيره، ورمال الشاطئ تعطي لجسده طاقة عن طريق تحركه فوقها، قبعة قطنية ناعمة قابلة للغسل وللطيْ تحمي رأسه عند اشتداد القيظ. ونسيم البحر مهما كانت درجة الحرارة يحقق قدرا من التلطيف للجو. يحتضن صندوق الفريسكا بحب، وينظر إلى طريقه برضا، وكأنه يخرج من بيته ساعيا على أكل العيش كالطيور تخرج من أعشاشها بحثا عن الطعام فيرزقها الله بفضله.
فقد نشأ في بيت فيه أب يطعم أبناءه بالحلال، ويلقنهم الرضا واليقين في كرم الله سبحانه. بالتالي فعند نشر حكايته احتضن الناس بالفطرة التي خلقنا الله عليها حكاية بائع الفريسكا وكلماته التلقائية. فلم يكن غريبا أن يتصدر الفيديو الذي تم تصويره له مواقع التواصل الاجتماعي مع الإشادة بقيمة العمل والاجتهاد وبخلق الشاب الأصيل، وتذكر الناس أنه مثلما يوجد السيئين، فهناك أيضا المحترمون.
بالتالي انتصر بائع الفريسكا وسيرة العمل الشريف على حكايات شيوع فاحشة المتحرشين بسلوكياتهم المقززة. ثم استكمالا لشخصية إبراهيم عبد الناصر، القنوعة، نجده عندما عرض عليه وزير التعليم العالي منحة بكلية الطب جامعة الإسكندرية أو جامعة الجلالة الأهلية، بالإضافة لمجئ عرض له بمنحة من الإمارات، نجده بلا تردد قد اختار جامعة الإسكندرية العريقة.
وبكرم الله القائل في كتابه الكريم "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا"، تبرعت أيضا له إحدى الشركات بمبلغ مئة ألف جنيه سنويا كدعم بكورسات علمية، ومستلزمات تعليمية، وغيرها. فسبحان الله الذي يسبب الأسباب، فمجرد صدفة جعلت أحد رواد الشاطئ، وهو "الدكتور حاتم خاطر" يدردش مع بائع الفريسكا، وحين عرف منه تفوقه سجل معه دقيقة واحدة، وقام بوضعها على حسابه على الفيس بوك. أذكر جملة شهيرة للفنان الكبير "زكي رستم" في فيلم "نهر الحب" قال فيها: "دقيقة واحدة تغير مصير أمم". بالفعل دقيقة واحدة نقلت حسابات الشاب البسيط وأسرته وأمه، ربة البيت البسيطة من حال إلى حال بفضل الله الكريم. قد يذهب بعد ذلك إبراهيم عبد الناصر إلى البحر الذي اعتادت قدماه الانتعاش بمائه خلال سيره حاملا على كتفه صندوق الفريسكا، وقد يمد القدمين فوق الرمال في استراحة قصيرة تصله خلالها أمواجه التي تأتي بلا حصر وتنحسر بلا عد. وربما يتذكر كما تذكرت أنا الآن أن هذا الكرم من الله معه قد حدث يوم 10 "محرم"، إنه اليوم الذي هرب فيه موسى وقومه من بطش فرعون، وبينما البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم، وبينما قوم موسى خائفين يرددون "إِنَّا لَمُدْرَكُونَ"، في ظن منهم ألا سبيل للنجاة من فرعون وجنوده الذين يرونهم على وشك أن يلحقوا بهم، إذا بموسى يقول بيقين لقومه "كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ". وبالفعل أمره الله سبحانه أن يضرب بعصاه البحر، فانشق البحر ليعبر موسى والذين معه ويهلك فرعون وجنوده غرقا في البحر نفسه. فعند البحر بغموضه وتقلبات أمواجه تبدلت الأمور من حال إلى حال، إنه الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
فلنطمئن ونحسن الظن بالله.