عاجل
الأحد 17 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
العزف بالكلمات

العزف بالكلمات

كيف لقلبي أن يطاوع يدي وهي تبتعد عن قلمي.



كيف لأناملي التي طالما ضمت القلم أن تهجره.

كيف تتغير هيئة أناملي عند الكتابة، فتضغط على أزرار لوحة المفاتيح في الكمبيوتر بعد أن عاشت سنوات طويلة وهي تضم القلم وتتحرك به فوق الورق، فتُنطق الأحرف وتبرئ روحي الساعية إلى التعبير عن الفكرة بالكتابة.

 

تساؤلات مستنكرة عاشت بين أناملي فترة ظننتها ستطول كثيرًا، لكنها توارت بسرعة عجيبة.

 

حدث ذلك مع بدايات اضطراري لمجاراة مقتضيات التكنولوجيا، والتحول من استخدام الورقة والقلم في الكتابة إلى استخدام لوحة المفاتيح في الكمبيوتر.

 

في البداية ظننت أن الأفكار التي اعتادت أن تظهر عبر سن القلم، ستتعثر في الولادة على لوحة المفاتيح "الكي بورد" لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

 

ما إن بدأت أناملي تتحرك فوق لوحة المفاتيح حتى استعادت ذاكرتي علاقة سابقة لأناملي مع مفاتيح البيانو، حينما كانت أحلامي منذ الطفولة تتضمن أن أعزف، إلا أنني بعد أن التحقت بفريق الموسيقى بالمدرسة اضطررت بعد فترة قصيرة أن أغادر الفريق، حينما خيروني بينه وبين فريق الإذاعة المدرسية، حيث لا يجوز الجمع للتلميذ بين فريقين يقتضي الانضمام لكل منهما ممارسة نشاطه في طابور الصباح. فغلب حبي للكلمات وقتها حبي للنغمات.

 

واخترت المواظبة على القراءة وكتابة كلمة الإذاعة المدرسية وإلقائها في طابور الصباح عن المشاركة في عزف النشيد الوطني في الطابور. وكان النشيد الوطني وقتها هو "والله زمان يا سلاحي، اشتقت لك في كفاحي"، وأذكر حتى الآن النوتة الموسيقية المعبرة عنه التي تعلمتها، وهي "دو دو دو دو سي لا سي فا صول، صول لا لا صول فا مي ري دو". تعلمتها على البيانو، كما مارست عزفها على آلة "الإكسليفون" الذي كان يتم العزف عليه في طابور الصباح بصحبة الإيقاع والوتريات وصيحات حناجر التلاميذ والتلميذات، وما يسري في الصباح الباكر من النسمات.

 

وعبر هذه الذكريات أعادتني لوحة مفاتيح الكمبيوتر لأيامي التي راحت، تلك الأيام التي تمنيت فيها أن تنجح أناملي في التحرك فوق مفاتيح البيانو لأستقبل الأنغام عبر لمسات من الأصابع.

 

شعرت عبر اللمسات بأن حركة أصابعي فوق لوحة مفاتيح الكمبيوتر تحمل رائحة مطلع لحن "إنت عمري" لكوكب الشرق "أم كلثوم". تلك الجملة الموسيقية التي عزفتها أناملي عبر البيانو خلال الحصص القليلة التي تعلمت فيها العزف قبل مغادرة فريق الموسيقى بالمدرسة.

 

لكنني لم أندم مثلما تتضمن كلمات أغنية "انت عمري" على "أيامي التي راحت". إنما ما حدث هو أن أمنية العزف القديمة على البيانو كي يسمع الناس الأنغام قد تم إحلالها في لوحة مفاتيح الكمبيوتر، أضغط على مفاتيح الحروف فأنسج أنغاما من الأفكار. تنساب أصابعي فوق مفاتيح حروف قد أصبحت الأنامل تعرف طريقها إليها فتفيض الأفكار فوق الشاشة، تتشكل، تتدافع، تتكامل، تزداد سرعة حركة الأنامل، يدفع بعضها بعضا، تزاحم بعضها بعضًا، تلهث أصابعي وألهث معها. أحذف، وأصحح، وأضيف. ومن دون أن أقصد يزداد اقتراب رأسي من لوحة المفاتيح بما يتضمنه ذلك من بعض الانحناء لظهري، أتدفق، تنطلق مشاعري وأفكاري تتبلور، خيوط تقابلها خيوط تتداخل في النسيج، تمتد، تغمر الشاشة، تسحب الصفحات سطور تليها سطور.

 

ومع اكتمال تعبيري عن الفكرة أشعر بنشوة انتقال ما فكرت فيه إلى الصفحات، ينتقل ظهري المحني فوق لوحة المفاتيح إلى الخلف، ليستقر في استراحة قصيرة على ظهر الكرسي بالطريقة نفسها التي طالما رأيت من يعزف على البيانو يقوم بها، عقب انفصاله عن الدنيا واندماجه في تحويل النوتة الموسيقية إلى أنغام. وحين يسند ظهره إلى الخلف تعبيرا عن وصول اللحن إلى منتهاه، ووصول الجهد إلى مبتغاه. يطل هدير تصفيق الجماهير، فتبدو عادة على وجه العازف علامات من دهشة منبعها أن عزفه جعله يظن أنه وحده، منفصل عمن سواه، فإذا بجماهير كثيرة قد وصلهم العزف، فأمتعهم، فصفقوا، فشعر العازف بنشوة التواصل وفرحة تفاعل الجماهير مع ما عبر عنه رغم العناء في الأداء.

 

هذا هو ما لاحظته على العازفين حين تحول حلمي بالعزف على البيانو إلى حب حضور حفلات الموسيقى الكلاسيكية، خاصة عند عزف الأعمال التي يتصدر فيها البيانو.

 

ولا أنسى حتى اليوم سعادتي وتحليق روحي عندما حضرت- وأنا في العشرينات من عمري- حفلا موسيقيا للفنان "رمزي يسي"، وكان الكرسي الذي أجلس عليه في موقع يسمح لي بمشاهدة أنامله وهي تنساب على مفاتيح البيانو، فتحيل السكون إلى نغمات تحلق بمن يستمع إليها وتربت على الأحزان وتحفز الأحلام.

 

وإذا بأصابعي وهي تتحرك فوق لوحة مفاتيح الكمبيوتر وأنا أكتب عليها تعوض وجداني عما لم أمارسه من العزف على البيانو، وتوحي لي بأنني أعزف بالكلمات على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وتحفزني على تحويل السكون إلى نغمات من الكلمات أتمنى أن تحلق بمن يقرؤها، وتربت على الأحزان، وتحفز الأحلام.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز