طارق رضوان
خدعة الأديان (7) عام المبادرة
كان عام 1977 عامًا فاصلًا ومفزعًا. لقد تغير العالم. وصبغ بصبغة دينية ممنهجة ذات أهداف بعيدة المدى. كان الرئيس السادات البداية. فقد كان على مصر أن تبدأ وتتخذ القرار. وقبل أن يفجر السادات قنبلته بالسفر إلى إسرائيل كان قد مزق المجتمع المصري تمزيقًا مفجعًا. وعليه أن يدفع ثمنه. ودفعه كاملًا. ودفعت مصر الثمن غاليًا. الثمن كان مزيدًا من الدم والدموع والخوف. كان الثمن هو المستقبل.
كان الإمبراطور الأمريكى يرتب العالم لخنق الاتحاد السوفيتى ومحاصرته وإشاعة فكرة إلحاده لدول الشرق الأوسط. كان الدين هو السلاح. وكان اللاعبون الثلاثة الفاعلون فى تلك اللعبة هم: السادات وكارتر وبيجن. الأول أطلق على دولته شعار «العلم والإيمان» أما الثانى فقد كانت الحاجة تدعو لتحسين صورة أمريكا لإقناع العالم بحاجة إلى استمرار حالة الهيمنة الأمريكية.
لذلك قدم ديفيد روكفللر لأصدقائه فى الاجتماع الذي عقد قبل سنة ونصف تقريبًا من الانتخابات الرئاسية عام 1976 رجلاً ليكون الرئيس القادم للولايات المتحدة. قلة من الأمريكيين وبعض من الأجانب كانوا قد سمعوا شيئا عن الرجل القادم من بلدة صغيرة فى جورجيا، حيث يعمل فى زراعة الفستق يدعى جيمى كارتر. كان كارتر مرشحا للرئاسة معمدانيا جنوبيا من طائفة الذين «ولدوا من جديد» ما جعل منه بدعة انتخابية على المستوى القومى.
كان محافظا دينيا ويصف نفسه بأنه (إنجيلى إحيائى). أما الثالث فهو يمينى متطرف من بناة الدولة الإسرائيلية ومؤسس حزب الليكود اليمينى المتطرف.
قامت المخابرات المركزية الأمريكية بكشف فضيحة مالية لإسحاق رابين، رئيس الوزراء وزوجته ليضطر لتقديم استقالته ومهدت الطريق لمناحم بيجن ليتولى الحكم ويستعد للمبادرة دون أن يزايد عليه أحد داخل إسرائيل أو خارجها. وفى 21 مايو 1977 أصبح بيجين رئيسا للوزراء واكتملت الدائرة التي غيرت مسار التاريخ. فى مصر قاد السادات لعبته بمهارة وثقة واطمئنان.
فى النصف الأول من ولايته. غرز بذور اللعب بالدين وحدد الطريق واختار رجال المرحلة ( بداية ظهور الشيخ الشعراوى الآتى لتوه من السعودية ليعين وزيرا للأوقاف ودولة لشؤون الأزهر قبل زيارة القدس بأربعة وعشرين يوما).
يقول إحصاء الإذاعة والتليفزيون لعام 1977 أن عدد ساعات البرامج والأحاديث الدينية التي تبثها الأجهزة الرسمية قد بلغت 32 ساعة فى اليوم الواحد.
وتقول دراسة إحصائية أخرى صادرة فى نسخ محدودة عن الجامعة الأمريكية فى القاهرة إن فى العام نفسه كان عدد الصفحات الدينية فى مصر قد بلغ 120 صفحة (بين جريدة ومجلة) أسبوعيا. ويشير إحصاء دار الكتب أنه قد صدر 1035 كتابا دينيا (غير المصحف) خلال العام ذاته.
ورغم ذلك فقد نشرت مجلة الدعوة الناطقة باسم الإخوان المسلمين فى عدد أغسطس 1977 تحت عنوان (هذا هو رأى الشعب يا وزير الإعلام). أن التليفزيون يدعو للخيانة الزوجية عن طريق التمثليات الساقطة وأن دولة العلم والإيمان فى أجهزة الإعلام مجرد شعارات. وما لم تقله مجلة الدعوة قاله المؤتمر الإسلامى بقيادة شيخ الأزهر عبدالحليم محمود حين ناشد رئيس الجمهورية تطهير الإعلام من الموبقات الأخلاقية التي تجرح صدور المؤمنين. وما لم تقله جريدة الإخوان والمؤتمر الإسلامى قاله مركز البحوث الاجتماعية حين نشر فى بحث إحصائى أن عدد الكابريهات فى شارع الهرم قد زاد بنسبة 375 فى المائة بين عامى 1976 و1977 وأن عدد الشقق المفروشة لأغراض الدعارة السرية قد زاد 1000 فى المائة عن الفترة ذاتها وإن حوادث خطف الفتيات واغتصابهن قد زادت بمعدل 400 فى المائة.
لقد كان السادات ونظامه يمهدون لقانون الحدود بتلك الإحصائيات. كان قانون الحدود الذي قدمه الأزهر لمجلس الشعب قد فجر قنبلة الفتنة الطائفية. ما أدى إلى تحركات مخيفة. ففى السابع عشر من يناير 1977 عقد أخطر مؤتمر دينى مسيحى فى تاريخ البلاد منذ ستة وستين عاما ( كان أول مؤتمر طائفى مسيحى فى تاريخ مصر عقد فى محافظة أسيوط جنوب مصر عام 1911 وكان الاستعمار البريطانى قد تمكن من إشعال فتنة طائفية بعد هزيمة الثورة العرابية عام 1882 وتعيين بطرس غالى باشا رئيسا لمحكمة دنشواى) وقال البيان الذي صدر عن المؤتمر ولم ينشر «دعت الضرورة لعقد هذا الاجتماع فى هيئة مؤتمر لممثلى الشعب القبطى بالإسكندرية مع الآباء الكهنة الرعاة، وذلك لبحث المسائل القبطية العامة وتفضل قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث بحضور جلسة الاجتماع الأول بتاريخ 17 ديسمبر 1976 فى الكاتدرائية المرقسية الكبرى وبحث المجتمعون الموضوعات المعروضة كما استعرضوا ما سبق تقريره فى اجتماع اللجنة التحضيرية لكهنة الكنائس القبطية فى مصر الحاصل بتاريخ 5 و6 يوليو 1976 ووضع الجميع نصب أعينهم – رعاة ورعية – اعتبارين لا ينفصل إحدهما عن الآخر. أولهما الإيمان الراسخ بالكنيسة القبطية الخالدة فى مصر والتي كرستها كرازة مرقس الرسول وتضحيات شهدائنا الأبرار على مر الأجيال والأمر الثانى الأمانى الكاملة للوطن المفدى الذي يمثل الأقباط أقدم وأعرق سلالاته حتى إنه قد لا يوجد فى العالم له ارتباط بتراب أرضه وقوميته مثل ارتباط القبط بمصر».
ثم عرض البيان للمسائل المطروحة للبحث وهى حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وحماية الأسرة والزواج المسيحى والمساواة وتكافؤ الفرص وتمثيل المسيحيين فى الهيئات النيابية والتحذير من الاتجاهات الدينية المتطرفة وقد طالب البيان بإلغاء مشروع قانون الردة واستبعاد التفكير فى تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين. وإلغاء القوانين العثمانية التي تقيد بناء الكنائس واستبعاد الطائفية من الوظائف العامة على مختلف المستويات وحرية النشر.
وكان واضحا من البيان أنه يخاطب المستويات العليا فى قمة السلطة مباشرة كما كان واضحا التطرف والطائفية معا فى استخدام تعبيرات مثل ( الشعب القبطى والسلالة العريقة فى القدم وعلينا أن نلاحظ الالتفاف حول الكنيسة أى الشرعية جنبا إلى جنب مع التمسك بالوطن غير أن أخطر ما فى البيان هو ما سمى بالتوصيات التنفيذية والتي طالبت المسيحيين بصوم انقطاعى لثلاثة أيام من 13 يناير إلى 2 فبراير 1977 واعتبار المؤتمر فى حالة انعقاد مستمر لمتابعة ما يتم تنفيذ فقراته وتوصياته بالنسبة لجميع المسائل القبطية العامة.
وفى وقت واحد وصلت رئاسة الجمهورية عدة مذكرات من الرعايا الأقباط فى الولايات المتحدة وكندا ( العرائض مقدمة بتاريخ 11 فبراير 1977) ومن أستراليا إلى رئيس مجلس الشعب (فى 9 مايو 1977). وكلها تدور حول المحاور ذاتها التي جاءت فى بيان الإسكندرية ولكن المثير هو مجموعة الأسئلة التي وجهتها الكنيسة القبطية فى ملبورن إلى المهندس سيد مرعى (رئيس مجلس الشعب) والتي جاء فيها ماذا تقول عن المقالات التي تتهم كتابنا المقدس بالتحريف والمقالات التي تنسب لنا الكفر والشرك والمطالبة بانتصار المسلمين على الكفار والمشركين كما جاء فى الرسالة أيضا إحصاء يلهب المشاعر الطائفية حول عدد المسيحيين المصريين فى الوظائف العامة مع مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ثلاثين وأربعين عاما وأحيانا نصف قرن وقد أرفقت الرسالة المذكورة بما سمى قرارات المؤتمر القبطى المنعقد فى ملبورن بوم السبت 25 يونيو سنة 1977 وسيدنى يوم الأحد 3 يوليو 1977 حيث كان القرار الأول هو الصوم الانقطاعى والثانى أعداد كتيب عن أقوال المسؤولين بخصوص الشريعة الإسلامية بلغات متعددة والثالث مسيرة فى كل مدن أستراليا فى وقت واحد والرابع الاتصال بكنائسنا فى أمريكا وأوربا وإفريقيا وكندا للتنسيق وتوحيد الجهود والخامس الأعداد لعقد مؤتمر لجميع المسؤولين فى الحكومة والإذاعة والتليفزيون، ولم يكن نشاط المسيحيين المصريين فى أستراليا ليحتاج إلى الاتصال ببقية القارات إذ نشطت كلها فى اتجاه واحد وتوقيت واحد مما لا يسمح بالتفكير فى حسن النوايا أو التلقائية.
إذ كان التقريب بين المسيحيين اللبنانيين فى المهجر وغيرهم من المسيحيين الشرقيين غاية واضحة مهما اختلفت الوسائل. وهكذا أصبحت هناك مسألة قبطية فى الإعلام الخارجى حتى إن مجلة متخصصة صدرت بالفرنسية فى باريس تدعى العالم القبطى. وكما حدث عام 1911 حين عقد المؤتمر الإسلامى المضاد لمؤتمر الأقباط وكاد يتكرس الانقسام الطائفى تحت راية الاحتلال البريطانى باستصدار قانون حماية الاقليات. فقد عقد فى شهر يوليو عام 1977 مؤتمر (الهيئات والجماعات الإسلامية) تحت رعاية الدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر (واشتركت فيه كل الهيئات والجمعيات الإسلامية بمصر وورد فى البيان الختامى الذي أوصى بما يلى):
كل تشريع أو حكم مخالف ما جاء به الإسلام باطل ويجب على المسلمين رده والاحتكام إلى شريعة الله التي لا يتحقق إيمانهم إلا بالاحتكام إليها الأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية فليس لأحد أن يبدى فيها رأيا فى وجوب ذلكـ ولا نقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو للتأجيل.
إن التسويف فى إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ورسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين وعلى الهيئة التشريعية أن تبرئ ذمتها أمام الله والناس بإقرار مشروعات القوانين المقدمة إليها.
ينظر المؤتمر بعين التقدير إلى ما صرح به السيد رئيس الجمهورية عن عزمه على تطهير أجهزة الدولة من الملحدين ويناشده سرعة التنفيذ حرصا على سلامة الأمة وقوة بنيانها.
يناشد المؤتمر رئيس الجمهورية إصدار أوامره بتطهير وسائل الإعلام.
وجوب تربية النشء فى جميع مراحل التعليم تربية دينية.
تكون اللجنة التنفيذية للمؤتمر فى حالة انعقاد مستمر لمتابعة الجهود التي تعبر عن إجماع الأمة على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية.
وكان البيان حريصًا على خاتمة تقول (اشترك فى المؤتمر الأزهر وهيئاته) أى أنه كبيان مؤتمر الإسكندرية المسيحى يستظل بالشرعية. ولأن كلتاهما (شرعية طائفية) أن جاز التعبير فقد تبدت شرعية النظام السياسية كلها. هكذا انقسمت مصر وتمزق نسيجها الوطني.
وطار السادات لإسرائيل!