قصة قصيرة .. دقائقٌ من عبقِ الزيتونِ
بقلم - أحمد عبد القادر الرفاعي كاتب سورى
كعادتها تعدّ لي الفطار وكعادتي ، أقرأ الجريدة ، وأبحث عن عمل ، وألعن حظّي .
كانت خطوات أمي متباطئة اليوم ، ولم توبخني على لعن حظّي كما تفعل كل يوم ، ولم تسألني عن أخبار قطاف الزيتون الذي كان يقع على عاتقها قبل أن تهرم ويتقوّس ظهرها ( أمي كانت تعمل في قطاف الزيتون في حقول الناس لأننا كنا يتامى لا نجد ما يسدّ رمق العيش ، وتقول إنّ أغصان الزيتون عندما تهشم وجهها الناعم تجعله أكثر جمالا لأنّ عبق الزيتون يشبه عبق الحياة ) .
وكعادتي لم أكترث لكل هذه الملاحظات إلا عندما تهاوت خائرة القوى متهاويةً على أحد المقاعد المتحلّقة حول طاولة الطعام ، فنهضت دون وعي وأسندت ظهرها على ذراعي
وقلت : مابك يا أماه ؟
كانت تشير لي إلى ألمٍ يمتد من الظهر إلى الصدر ، ذلك الألم اللعين الذي كان يعاودها كل فترة ولكنّه لم يكن يرمي بها هكذا ، شحب وجهها الجميل ، فحملتها بين ذراعيّ ، وشخصت بي كأنها تقول : لا تحملني يا بني قد أكون ثقيلة عليك ، آهٍ يا أمي حتّى من هذا تخافين علي ، دائما الأم تحمل ما يكفيها من الحنان لكل شيء وفي أي وقت ، خرجت من المنزل ، وصرخت : سيارة أجرة ، أمي تموت ، أرجوكم سيارة أجرة ، قلبي يموت .
نحن لا نعرف أنّ قلوبنا متعلّقة بأمهاتنا إلا عندما نفقدهن ، ولا ندرك ما يختبئ خلف مشاعرنا إلا في اللحظات الأخيرة ، أرجوكِ يا أمي تمالكي فما زلت بحاجتك .
وصلت سيارة الأجرة ، مدّدت أمي التي بدأت تغيب عن الوعي كليّا ، وانطلقت السيارة ، كنت أحثّ السائق على زيادة السرعة ، ولكن الازدحام أوقف عجلات الحياة ، أمسكت بيد أمي التي تشققت من العمل بين أغصان الزيتون ولكنها لم تفقد ملمسها الدافئ ونعومتها البريئة
.
وأمام غرفة العناية المشددة كانت أطول دقائق حياتي ، أعيش بين انتظار جريح وأنين مفجع ،وأتلمس خبرا تائها ، خرج الطبيب فارتميت على كفه أستجدي كلماته ، فقال لي ببرود المهنة : هل أنت ابنها ؟
أشرت له بالإيجاب لأن كلماتي غصّت بين حنجرة يائسة ومحجر مبتل ، فقال : تحتاج إلى عملية فورية لفتح شرايينها والعملية مُكلفة ولا نستطيع القيام بها حتى تدفع قسما من المبلغ للمحاسبة ،لا تملك من الوقت إلا دقائق . أكمل عباراته وذهب ، وأنا أنفجر بذهول خانق بين نذر يسير من المؤكد لا يكفي وعجز مقيت أجلسني منهك القوى دون أي قدرة على النهوض ، وساد صمت رهيب ، لا أسمع إلا تكات عقرب الثواني الذي أعلن حربي مع الدقائق ، فأهابني نذير الخطر على روح والدتي ونهضت بالحال لأبدأ رحلة بحثي عن المبلغ المطلوب ، كان قلبي يخفق بالخوف وقدمايّ تتيبسان كمسمارين غُرزا في الأرض يمنعاني من الحركة ، المصنع القديم كانت وجهتي الأولى ، حيث طُردت من العمل عندما ضربت مدير الحسابات لتغريمي لخطأ لم أرتكبه ، ولكني اتجهت نحوه وطلبت المال منه ، فصبّ عليّ وابلا من التعنيف والتبرير واللوم والعتاب ، فتركته ، وتواريت بين العمال الذين راحوا يتهامسون بكلام عن تهوري لم أكترث له ، وبلهجة المذنب طلبت من مدير حسابات في شركة أخرى المبلغ ، ولأن الصداقة ما زالت على قيد الحياة أمّن لي لقاءً مع مدير الشركة ، وهناك شرحت له الوضع باختصار شديد لأنّ المدراء مشغولون دائماً ، انتظرت جوابه الذي تأخر كأنّ الكلمات ترفض أن تغادر شفتيه ، وفي النهاية نظر إليّ من فوق نظارته المصنوعة من عظم غريب وقال بصوت جاف : الميزانية لا تسمح …
الميزانية لا تسمح لتحيا أمي .... الميزانية لا تسمح لإنقاذ حياة امرأة حملت لنا الحياة ، كم نظلم أمهاتنا بالإهمال ، نظن دائما أنهن خُلقن لحمل همومنا والتخفيف من أحزاننا لا نفك نتذمر أمامهن ، ونهرب منهن عندما تنتابنا السعادة ،بدأت أتذكر أشياء قديمة خاصة بأمي دموعًا ، قصصًا ، أغانٍ ، كم هي جميلة أغاني الأمهات عند نجاح أبنائهن ، أتذكر جيدا تلك الأغنية التي غنتها لي أمي عندما تخرجت من الجامعة كان شيئا ما يختبئ وراء كلماتها أكبر من أي كلمات وأعظم من أي لحن ، لصداها ربيع عمر لا نعرفه ولا ندركه إلا عندما نفتقده .
تزاحمت دموع الاستسلام غاصّة بين محجريّ الذين ضاقت بهما سُبل الحلّ ، وجفت موارد السؤال ، آهٍ يا أمي لم أشعر بهذا الشعور من قبل ، لماذا لم أشعر بقيمة وجودك ، لماذا لم أغدق عليك بالحنان اللازم ، هل كنت تُعطين ولا تنتظرين مقابلا كنبع ينبض بالحنان ولا يحتاج إليه ، وهل سمعتِ بنبع يحتاج لنبع !؟ ، ما زلتُ أشعر بابتسامتك لليوم ، فالأم تبتسم لنا حتى لو كانت في العالم الآخر ، من أين تدفقت كل هذه المشاعر ، هل يجلد الناس مشاعرهم بترهات الحياة ويحبسونها في صدورهم رهينة موقف كهذا .
رنّ جوالي ، كان رقم المشفى ، لا يُعقل ، هل ماتـ ـ ـ ـ ، لا لايمكن هذا ، ماذا أفعل ؟
بيدين مرتجفتين فتحت الجوال ، وبقلب مكسور قلت : ( ألو ) ، وإذ بصوت ممتلئ بالحياة : الحمد لله على سلامة والدتك ، لقد أجرينا لها العملية وتمت بنجاح بفضل الله . أغلق المتكلم السماعة ، ابتلعتْ المفاجأةُ كلماتي وفرحتي وحيرتي ، ولم أجد نفسي إلا في المشفى .
سألت غرفة الاستقبال ، وهناك كانت تنحلّ الألغاز باختصار مفادُهُ ( رُزق الطبيب صاحب المشفى بولد بعد انتظار عشرين عاما لذلك قرر إجراء العملية على نفقته الخاصة لكل مرضى اليوم ولحرج حالة والدتك أجرى لها الطبيب العملية على مسؤوليته ) .
ضاق الكون بفرحتي التي اتسعت بمقداره أضعافا ، وقبل كل شيء سأشكر الطبيب لا بل سأشكر المولود ، صعدت بسرعة البرق حاملا باقة من الورد ، وسألت عن الغرفة التي يوجد بها المولود ، كان وحيدا في الحاضنة صغيرا كعصفور ، جميلا كيوسف ، وقفت بجانبه أتأمله ، قبل أن يأتي الطبيب ويقول : مسكين هذا الطفل توفي بعد ولادته بدقائق .
شعرت بإعصار من المشاعر المتضاربة يعصف بي ، أمعنت النظر في وجهه كأنه قطعة من الجنة ، وضعت باقة الورد بجانبه ، وقلت له بصوت خفيض : شكرا لك أيها الصغير وشكرا للدقائق التي أحييت بها بإذن الله عشرات المحتاجين ، نم بأمان يا صغيري فأنت بدقائق استطعت أن تفعل ما لم يفعله غيرك بعشرات السنين ، أنت عبق الزيتون ، ودقائقك دقائقٌ من عبق الزيتون .