عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

قصة قصيرة .. دقائقٌ من عبقِ الزيتونِ

 كعادتها تعدّ لي الفطار وكعادتي ، أقرأ الجريدة ، وأبحث عن عمل ، وألعن حظّي .



 

كانت خطوات أمي متباطئة اليوم ، ولم توبخني على لعن حظّي كما تفعل كل يوم ، ولم تسألني عن أخبار قطاف الزيتون الذي كان يقع على عاتقها قبل أن تهرم ويتقوّس ظهرها ( أمي كانت تعمل في قطاف الزيتون في حقول الناس لأننا كنا يتامى لا نجد ما يسدّ رمق العيش ، وتقول إنّ أغصان الزيتون عندما تهشم وجهها الناعم تجعله أكثر جمالا لأنّ عبق الزيتون يشبه عبق الحياة ) .

 

وكعادتي لم أكترث لكل هذه الملاحظات إلا عندما تهاوت خائرة القوى متهاويةً على أحد المقاعد المتحلّقة حول طاولة الطعام ، فنهضت دون وعي وأسندت ظهرها على ذراعي

 

 وقلت : مابك يا أماه ؟

 

كانت تشير لي إلى ألمٍ يمتد من الظهر إلى الصدر ، ذلك الألم اللعين الذي كان يعاودها كل فترة ولكنّه لم يكن يرمي بها هكذا ، شحب وجهها الجميل ، فحملتها بين ذراعيّ ، وشخصت بي كأنها تقول : لا تحملني يا بني قد أكون ثقيلة عليك ، آهٍ يا أمي حتّى من هذا تخافين علي ، دائما الأم تحمل ما يكفيها من الحنان لكل شيء وفي أي وقت ، خرجت من المنزل ، وصرخت : سيارة أجرة ، أمي تموت ، أرجوكم سيارة أجرة ، قلبي يموت .

 

  نحن لا نعرف أنّ قلوبنا متعلّقة بأمهاتنا إلا عندما نفقدهن ، ولا ندرك ما يختبئ خلف مشاعرنا إلا في اللحظات الأخيرة ، أرجوكِ يا أمي تمالكي فما زلت بحاجتك .

 

وصلت سيارة الأجرة ، مدّدت أمي التي بدأت تغيب عن الوعي كليّا ، وانطلقت السيارة ، كنت أحثّ السائق على زيادة السرعة ، ولكن الازدحام أوقف عجلات الحياة ، أمسكت بيد أمي التي تشققت من العمل بين أغصان الزيتون ولكنها لم تفقد ملمسها الدافئ ونعومتها البريئة

.

وأمام غرفة العناية المشددة كانت أطول دقائق حياتي ، أعيش بين انتظار جريح وأنين مفجع ،وأتلمس خبرا تائها ، خرج الطبيب فارتميت على كفه أستجدي كلماته ، فقال لي ببرود المهنة : هل أنت ابنها ؟

 

أشرت له بالإيجاب لأن كلماتي غصّت بين حنجرة يائسة ومحجر مبتل ، فقال : تحتاج إلى عملية فورية لفتح شرايينها والعملية مُكلفة ولا نستطيع القيام بها حتى تدفع قسما من المبلغ للمحاسبة ،لا تملك من الوقت إلا دقائق . أكمل عباراته وذهب ، وأنا أنفجر بذهول خانق بين نذر يسير من المؤكد لا يكفي وعجز مقيت أجلسني منهك القوى دون أي قدرة على النهوض ، وساد صمت رهيب ، لا أسمع إلا تكات عقرب الثواني الذي أعلن حربي مع الدقائق ، فأهابني نذير الخطر على روح والدتي ونهضت بالحال لأبدأ رحلة بحثي عن المبلغ المطلوب ، كان قلبي يخفق بالخوف وقدمايّ تتيبسان كمسمارين غُرزا في الأرض يمنعاني من الحركة ، المصنع القديم كانت وجهتي الأولى ، حيث طُردت من العمل عندما ضربت مدير الحسابات لتغريمي لخطأ لم أرتكبه ، ولكني اتجهت نحوه وطلبت المال منه ، فصبّ عليّ وابلا من التعنيف والتبرير واللوم والعتاب ، فتركته ، وتواريت بين العمال الذين راحوا يتهامسون بكلام عن تهوري لم أكترث له ، وبلهجة المذنب طلبت من مدير حسابات في شركة أخرى المبلغ ، ولأن الصداقة ما زالت  على قيد الحياة أمّن لي لقاءً مع مدير الشركة ، وهناك شرحت له الوضع باختصار شديد لأنّ المدراء مشغولون دائماً ، انتظرت جوابه الذي تأخر كأنّ الكلمات ترفض أن تغادر شفتيه ، وفي النهاية نظر إليّ من فوق نظارته المصنوعة من عظم غريب وقال بصوت جاف : الميزانية لا تسمح …

 

      الميزانية لا تسمح لتحيا أمي .... الميزانية لا تسمح لإنقاذ حياة امرأة حملت لنا الحياة ، كم نظلم أمهاتنا بالإهمال ، نظن دائما أنهن خُلقن لحمل همومنا والتخفيف من أحزاننا لا نفك نتذمر أمامهن ،  ونهرب منهن عندما تنتابنا السعادة ،بدأت أتذكر أشياء قديمة خاصة بأمي دموعًا ، قصصًا ، أغانٍ ،  كم هي جميلة أغاني الأمهات عند نجاح أبنائهن ، أتذكر جيدا تلك الأغنية التي غنتها لي أمي عندما تخرجت من الجامعة كان شيئا ما يختبئ وراء كلماتها أكبر من أي كلمات وأعظم من أي لحن ، لصداها ربيع عمر لا نعرفه ولا ندركه إلا عندما نفتقده .

 

      تزاحمت دموع الاستسلام غاصّة بين محجريّ الذين ضاقت بهما سُبل الحلّ ، وجفت موارد السؤال ، آهٍ يا أمي لم أشعر بهذا الشعور من قبل ، لماذا لم أشعر بقيمة وجودك ، لماذا لم أغدق عليك بالحنان اللازم ، هل كنت تُعطين ولا تنتظرين مقابلا كنبع ينبض بالحنان ولا يحتاج إليه ، وهل سمعتِ بنبع يحتاج لنبع !؟ ، ما زلتُ أشعر بابتسامتك لليوم ، فالأم تبتسم لنا حتى لو كانت في العالم الآخر ، من أين تدفقت كل هذه المشاعر ، هل يجلد الناس مشاعرهم بترهات الحياة ويحبسونها في صدورهم رهينة موقف كهذا .

 

        رنّ جوالي ، كان رقم المشفى ، لا يُعقل ، هل ماتـ ـ ـ ـ ، لا لايمكن هذا ، ماذا أفعل ؟

 

بيدين مرتجفتين فتحت الجوال ، وبقلب مكسور قلت : ( ألو ) ، وإذ بصوت ممتلئ بالحياة : الحمد لله على سلامة والدتك ، لقد أجرينا لها العملية وتمت بنجاح بفضل الله . أغلق المتكلم السماعة ، ابتلعتْ المفاجأةُ كلماتي وفرحتي وحيرتي ، ولم أجد نفسي إلا في المشفى .

 

          سألت غرفة الاستقبال ، وهناك كانت تنحلّ الألغاز باختصار مفادُهُ ( رُزق الطبيب صاحب المشفى بولد بعد انتظار عشرين عاما لذلك قرر إجراء العملية على نفقته الخاصة لكل مرضى اليوم ولحرج حالة والدتك أجرى لها الطبيب العملية على مسؤوليته ) .

 

          ضاق الكون بفرحتي التي اتسعت بمقداره أضعافا ، وقبل كل شيء سأشكر الطبيب لا بل سأشكر المولود ، صعدت بسرعة البرق حاملا باقة من الورد ، وسألت عن الغرفة التي يوجد بها المولود ، كان وحيدا في الحاضنة صغيرا كعصفور ، جميلا كيوسف ، وقفت بجانبه أتأمله ، قبل أن يأتي الطبيب ويقول : مسكين هذا الطفل توفي بعد ولادته بدقائق .

 

  شعرت بإعصار من المشاعر المتضاربة يعصف بي ، أمعنت النظر في وجهه كأنه قطعة من الجنة ، وضعت باقة الورد بجانبه ، وقلت له بصوت خفيض : شكرا لك أيها الصغير وشكرا للدقائق التي أحييت بها بإذن الله عشرات المحتاجين ، نم بأمان يا صغيري فأنت بدقائق استطعت أن تفعل ما لم يفعله غيرك بعشرات السنين ، أنت عبق الزيتون ، ودقائقك دقائقٌ من عبق الزيتون .

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز