طارق رضوان
الأنفلونزا تشكل عالم
نرى مشاهد تاريخية قد لا نستوعبها كاملة اليوم أو فى المستقبل القريب. لكن التاريخ بما يحمله من خبرة ومعرفة سيدرسها ويتدبر أمرها لتتضح الصورة كاملة.
البشرية على أعتاب حقبة جديدة وتاريخ جديد. فيروس كورونا زمن فاصل ما بين العالم القديم والعالم الحديث. ما بين الماضى والمستقبل إنها لحظة ميلاد جديدة لقرن جديد.
يبدو أن الفيروسات تضع حدًا فاصلًا ما بين تاريخ وجغرافيا الكوكب. فمنذ مائة عام انتشر فيروس الأنفلونزا الإسبانية فى الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى كان ذلك فى خريف عام 1918. تفشى المرض إلى درجة أنه أصاب ثلث البشرية فى ذلك الزمان. لقد أصيب بها 500 مليون شخص مات منهم 100 مليون شخص وهو ما يعادل ضعف ضحايا الحرب العالمية الأولى. لقد تغير التاريخ بعدها وتغيرت الجغرافيا.
بل كانت الخرائط قد بدأت تفرد على موائد المفاوضات لرسم جغرافيا جديدة للعالم كله. لقد كان هذا التاريخ كما قالت عنه المؤرخة إليزابيث مونرو الإنجليزية الأصل أنه كان آخر أعوام العالم القديم المألوف بالإمبراطوريات سليمة الحدود، للخطابات المتبادلة بين الشخصيات المختلفة، للاتفاقيات السرية التى يتم التوصل إليها فى الخفاء وللتعاطى مع جميع السكان المختلفين وكأنهم ملكيات منقولة وعبيد. كان أيضًا العام الأخير لغياب النقد من قبل الحلفاء المعادين للإمبريالية.
لقد مر قرن من الزمان لتبدأ الولايات المتحدة فى صناعة عالمها. فهى القوة العظمى الوحيدة فى الكوكب. فالدولة التى تتحكم فى العالم اليوم هى الدولة التى تمتلك القوة والقدرة بالاعتماد على قوتها المادية والثقافية والروحية بما يجعلها تتحكم فى الدول الأخرى مع اختلاف نوع ودرجة التأثير. لكننا اليوم فى قرن أصبح يبحث عن أكبر الأرباح قدرًا مع أقل الخسائر. هو قرن الحروب الذكيّة وحرب القوة الناعمة التى تعتمد بشكل كبير على التقدم التكنولوجى وتحديدًا الحسابات الرياضية فى إدارة التغيير وفرض الإرادات على الدول التى تدور فى فلكها أو تجذبها إلى هذا الفلك. الولايات المتحدة بقدراتها وإمكانياتها العسكرية والتكنولوجية تمتلك أهم مفصلى الجسد العالمى. ليس للفترة الحالية فقط؛ بل على مدى المستقبل البعيد أيضاً.
فالمقومات العسكرية والتكنولوجية التى تمتلكها والتى اكتسبتها فى ظروف اقتناص الفرص فى ظل تصارع الدول الكبرى جعلتها تتربع القمة الهرمية الدولية فى الترتيب. تشكل الولايات المتحدة العالم بما يتناسب مع دورها الذى تراه فى قيادته. وبدلًا من إطلاق مصطلح الأمركة. جعلت آلة الدعاية الغربية مصطلحًا مرادفًا أكثر لطفًا ورقة وهو مصطلح العولمة. التى أصبحت واقعًا عالميًا يفرض نفسه على الجميع. وهى تعكس طبيعة التطورات الحاصلة فى الاقتصاد العالمى وقدرته على الامتداد المؤثر عبر الحدود الدولية وكسره لمختلف القيود؛ بل كسره لكل القيود. كما تعكس العولمة تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وما توفره من إمكانية اختراق ثقافى وسياسى للمجتمعات. فالدول التى تمتلك القدرات التكنولوجية والاقتصادية ولها أهداف استراتيجية بعيدة المدى الجغرافى تقوم على الهيمنة والسيادة على الآخرين. لذا فهى لن تجد أفضل من موجة العولمة تركبها لتحقيق أهدافها تلك.
وهذه الحقيقة جعلت من العولمة القوة بمفهومها الشامل الاقتصادى والسياسى والعسكرى والتقنى والإعلامى والثقافى. وهى الأساس التى سوف تصنع أو تكون شكل النظام العالمى فى القرن الحادى والعشرين. لقد أصبحت العولمة مرادفًا للأمركة. لأن الولايات المتحدة فى ظل الوضع الدولى الحالى هى الأقوى فى امتلاكها لعناصر القوة المختلفة وتريد توظيف العولمة لصالحها، كى تخرج بحصة الأسد. وأن تعيد تجديد شباب سيطرتها العالمية وتفوقها الساحق على البشرية. وهو ما لا يمنع فى حالة تغير موازين القوى لغير صالح الولايات المتحدة من أن يخرج من يقول بأن العولمة هى مرادف للأوربة أو الأسلمة. أو لو ظهر لاعب جديد يقتسم العالم بقوته الحديثة المتحفزة والحذرة كما فعلت الصين أن تلاقى هجومًا شاملًا من الإمبراطور القديم دفاعًا عن المصالح والنفوذ والسمعة والكبرياء. وهو ما يدل على أن العولمة واقع طبيعى فى عالمنا. ومن أهم مظاهر سطوتها بروز دور الشركات المتعددة الجنسيات فى المجال الاقتصادى واختراقها لاقتصاديات الدول المختلفة، وتعرض الاقتصاديات الضعيفة والتى لا تملك القدرة على المنافسـة إلى خطر الانسحاق أو التبعية الاقتصادية وهيمنة فلسفة الربح التى تقود إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشعوب.
وهو ما جعل الثقافات الوطنية تتعرض إلى الغزو الثقافى بسبب التطور فى وسائل الاتصالات الحديثة. الغزو يشمل حتى الدول الكبرى. فوزير الثقافة الفرنسية الأشهر فى تاريخها (جاك لانج) قال إن العولمة لا تحتل الأراضى بالقوة العسكرية. لكنها تصادر الضمائر ومناهج التفكير وطرق البحث وتسرق الهوية. لذا على الدول لكى تتجنب المخاطر الثقافية للعولمة، أن تعمل على تعزيز دور ثقافاتها الوطنية من خلال تفتحها على الثقافات الأخرى فى الوقت الذى تتمتع فيه بالجاذبية والقبول من قبل شعبها والشعوب الأخرى. وقد كان بروز دور التكنولوجيا الحديثة وما تتطلبه من عقول مهيأة للتعامل مع العولمة أمرًا حتميًا. فلا جدوى من وجود تكنولوجيا وعقول لم تعد تواكب عصرها. لقد تم عولمة الجانب الأمنى والعسكرى. إذ دخل هذا الشكل من العولمة بقوة بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة. فقد حرصت على إعطاء الإرهاب الدولى بعدًا يجعل من الضرورة على دول العالم المختلفة أن تشترك معها فى رؤيتها الأمنية والعسكرية. ومن لا يشترك معها فى هذه الرؤية يكون فى صف أعدائها الذين حل عليهم العقاب ووجب عليهم العذاب.
ما أدى إلى تهميش دور الدولة الوطنية وإضعاف سيطرتها على حدودها وشعوبها ومحاولة القوى الكبرى فرض نموذجها السياسى فى الحكم عليها. فعجز الاقتصاد الوطني ودولته عن مواجهة تيار العولمة الجارف. حيث تَولّد ميل متصاعد إلى إنشاء الحماية فى ظل التكتلات الإقليمية الداعمة للتغيرات العولمية أو متعارضة معها. الدول التى تدخل فى سياق الأقلمة الاقتصادية تنقل الترابط الاقتصادى من المستوى الذى تبشر به العولمة (على مستوى العالم)، إلى مستوى التكتل الإقليمى حيث يتم ترابط وثيق بين اقتصادها الوطني واقتصاديات الدول الأخرى الموجودة فى التكتل.
وهو ما يتطلب انفتاحًا اقتصاديًا يسمح بإقامة المناطق الحرة والاتحادات الجمركية وحرية انتقال السلع ورؤوس الأموال وزيادة دور القطاع الخاص وتقليل القيود الحكومية. وهو الأمر الذى يعنى أن الدولة العضو فى التكتل يجب عليها أن تقبل التنازل عن شيء من سيادتها على اقتصادها وإقليمها. فرفضها لهذا الأمر يجعلها غير مؤهلة للانضمام إلى التكتل. أى تكتل، لتجد نفسها تقف وحيدة مكشوفة أمام تحديات الاقتصاد العالمى الجديدة. لقد تم تعميم العولمة وفرضها بالقوة المفرطة وأعلنت نجاحها تماما. فقد جلس العالم المتقدم كله فى البيت خوفًا من مرض عالمى.
لقد اتبع الجميع نفس السلوك وقالوا نفس العبارات. سلوك اخترعته الولايات المتحدة وعبارات صاغها رجالها وأصبحت أمرًا واقعًا. عالم جديد وُضع أولًا بالقوة الناعمة. وضعت سماته وصفاته ورسمت تشكيله الجسمانى ثم فرضته بالقوة المفرطة. عالم ما بعد كورونا غير عالم ما بعدها. تماما كما كان عالم ما بعد الأنفلونزا الإسبانية غير عالم ما بعدها.