د. عزة بدر تكتب: "أكتب حتى لا ينتهى العالم"
قراءة في رواية "أنا العالم" لهاني عبد المريد
"سأقول لأبيك إنني الولد الذي ظل يطاردك لسنوات، وإنني الولد الذي يسير دوما متدليا من كتفه شنطة مليئة بالنعناع الأخضر، سأقول له إن عملتي النقدية هي النعناع، وأن وحدة العملة الحزمة.
وأن النظام المتبع هو المقايضة، سأقول له إنني الولد الذي يعشق تفاصيل ابنته، رمشة عينيها، اعوجاج شفتيها أثناء النطق ببعض الحروف، صوت ورائحة أنفاسها ، أنا الولد الذي لا يملك إلا بنطلونين وقميصين ومعطف مطر قديم.
هكذا تكلم بطل رواية "أنا العالم" لهاني عبد المريد، الرواية الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية لهذا العام.
وهى رواية ترصد أحلام شاب مكافح عاشق للكتابة والأدب، لا يملك لنفسه ولا لحبيبته ولا في مواجهة العالم بمشاكله ومعاناته سوى حقيبة عامرة بالنعناع، لا يملك سوى أن يعطر الدنيا من حوله ويملأها حنينا وشوقا للحب ومعانقة الحياة.
باب الرحمة
تثقل معاناة أبطال الرواية جميعا، ويشقون، وعلى الرغم من ذلك يحلمون بتحقق نبوءة الجد بقدوم الربيع فيملأ الدنيا بهجة وحبورا، أسطورة الجد ليست خيالية لكنها منطقية وواقعية أيضا، لأنه إذا لم يأت الربيع فأين يذهب؟ وهم ماذا ينتظرون سواه؟ وأليست فصول العام فيها ربيع؟ وإذا لم يأت فأين يكون؟ ولم لا يأتي؟
يقول الجد: "يبقى باب الرحمة مفتوحا أمام الاحتمال الآخر وهو ربما يجيء الربيع".
تنتظره جميلة جميلات القرية زوجة العم الوسيم الذي قيدها إلى شجرة، لأنها تحب الرسم، ربط ساقيها جيدا وربط عضديها حول جسدها بقوة، فكانت ترسم وهي راقدة، وتأكل القليل مما يوضع لها، لم يأت الربيع فقررت أن تصنع ربيعها الخاص، ترسم وتلقى بالبذور من حولها حتى نمت بذور الطماطم والفلفل والبطيخ ونمت من حولها أشجار الخوخ والعنب والليمون، وزوجها القاسي يلقى إليها بالطعام والورق والألوان التي أقنعته بعد جهد جهيد أنها لا تريد سواها من هذه الدنيا لكن الزوجة المبدعة تملأ المكان بلوحاتها، ويعلقها الناس في كل مكان، على الأشجار، وفي الحواري، وداخل البيوت، وفوق أبوابها.
ومن هنا يفتح الراوي آفاق النص ليصنع من أسطورة غياب الربيع ربيعا يكاد أن يكون الفصل الوحيد في حياة البلدة، والذي صنعته تلك المرأة الفنانة بألوانها وفرشاتها ومحاولاتها التي لا تيأس في حدوث الربيع .
وكأن الراوي يود أن يقول من خلال نصه أن كل أمرئ قادر على أن يصنع حلمه، وأن يحقق رؤيته حتى لو كان مقيدا، وهو ما يتراءى لنا في مشاهد عدة من تلك الرواية التي اعتمدت مزج الخيال بالواقع، وحاول أبطالها الوصول إلى تحقيق الأسطورة.
في قاع عملاق!
وتتماهى شخصيات الرواية في طلب الربيع، فالبطل الرئيسي للرواية يحب الكتابة ويعشق النعناع لكنه أيضا يعاني من كوابيسه اليومية، ومن هنا تتبدى صور معاناته التي تُدخل إلى عالم الرواية أصوات مختلفة متعارضة المصالح، وكل منهم يعبر عن نفسه فتحكم حلقة الصراع الذي يتنامى، من خلال حركة داخلية متمثلة في العالم النفسي والشعوري لبطل الرواية، وحركة خارجية من خلال رسم شخصيات أخرى تناصبه العداء، والتهديد، فتتحدث كل شخصية بمنطقها ورؤيتها للمواقف المختلفة فيظهر الرقيب كشخصية مناوئة للكاتب عاشق النعناع، ويظهر الطبيب النفسي الذي يحاول مساعدة الكاتب في اجتياز أزمته الوجودية في عالم لا يكترث بالنعناع، والقيم الشعورية الخالدة.
يقول له الطبيب "أنت الآن في قاع قدر كبير للطهي عملاق، انظر أنت هناك في الأسفل، انظر لنفسك صغيرا في أحد أركان القاع!".
عالم طبيعي زالت عنه الوحشة
لكن الراوي يتمسك بأهداب الربيع الأسطورة التي يفوح شذاها كنبوءة، فينسج أحلام أبطاله في الوصول إليها، يستنشقون عبيرها الغامض البعيد، فتنعش فيهم الأمل، ومن خلال أكثر من أسلوب فني يصنع الكاتب أسطورته، من خلال استبطان العالم الداخلي، وإفادة أبطاله من التغذية المرجعية لما يدور حولهم من أحداث وشخصيات.
(مثل تغلب زوجة العم على قيودها وتحررها الداخلي بالرسم)، ومن خلال عالم الأحلام بل والكوابيس أيضا ينبثق الأمل كطاقة نور وفرح، فينفتح النص أمام المتلقي واسعا شاسعا رحبا ليملأ جوانحه بالحياة والأمل، فيقول الكاتب عاشق النعناع: "لم أكن أشعر سوى بأنني وحيد في قاع الِقدر العملاق".
كان القاع رطبا باردا، وكانت شفتا الطبيب تتحركان بلا صوت، عيناه تضيقان وتتسعان، ملامحه تغيم، وتبتعد، كنت وحيدا تماما، عندما تلاشى الطبيب وعيادته، كنت في القاع لأول مرة بلا خوف، لم أحاول تسلق جدران القدر، لم يزعجنى تلاشى العالم أو انتهائه، قاع القِدر العملاق بدا لي كعالم طبيعي زالت عنه البرودة والوحشة، نبتت أزهار ورياحين وأحجار جيرية مختلفة الأحجام، لم تكن صلبة، أتاحت لي
تسجيل كل مشاعري على قشرتها الخارجية متقبلة ذلك بكل ود، وبقيت أكتب وأكتب، وفي روعي أنه عندما يسألني أحد لماذا تكتب؟، سأجيب على الفور: أنني أكتب كي أبدد مخاوفي وشعوري بالوحدة، أكتب حتى لا ينتهي العالم".
حركة النص الداخلية
ويتعمق الراوي مشاعر بطله، وعالمه النفسي فيصور تيار الشعور، واللاشعور، وما ينتابه من تصورات ومخاوف وما يراه من مشاهدات كابوسية، وهاته المشاهد يأمل الراوي أيضا أن تتحول إلى مشاهد مربكة لكنها مهمة ومحفزة على التطور والتغيير، فيقول بطل الرواية: "أعرف أنه – أي الطبيب - فسر حالتي على أنها اضطراب عصبي، أنا أتحدث معك ، وفجأة أدافع عن وجهي، وكأنك ستلكمني أو أنحني وكأن هناك طلقة موجهة إلى جبهتي، كل هذه أفعال تبدو عجيبة لمن لا يعلم شيئا عما أرى من مشاهد، مشاهد مربكة تمر أمامي بشكل طارئ، ومشاهد تمر بلا أي اعتبارات، وأنا آكل وأنا أعبر الشارع، وأنا أتحدث.
هل ما يأتيني من مشاهد هو ناتج عشقي للكتابة؟، أن يتحول العالم من حولي لمجرد مجموعة من المشاهد المفضلة، هل كان عليّ أن أحاول تجميعها، والربط بينها فربما كانت فيها البشارة براويتي الأولى، هل كان من الممكن أن يأتي يوم أفخر فيه بمشاهدي المربكة هذه.
كوب شاي دافئ بالنعناع!
ويدير الراوي دفة الصراع بين أبطاله فبينما يكون النعناع رمزا لكل ما هو جميل وعبق من معان ورؤى عند يوسف عبد الجليل الكاتب، فإنه يكون رمزا متهافتا لدى الرقيب الذي يرى أن الكاتب يعذب في الرواية أبطاله، وفي يده كوب شاي دافئ بالنعناع! ، بل من الممكن أن يتحول إلى تهمة! فيقول الراوي تحت عنوان "صفحات مدسوسة من الرقيب".
فيفصح عن منطق شخصية الرقيب ورؤيته "لا يهمني إذا كان ما تحمل دوما نعناعا كما تدعى أم هي مواد مخدرة مثلا تتاجر فيها وتتستر خلف ستار النعناع، وربما تتستر خلف علاقتك بريم، هذا السيناريو أقرب لمنطقي، ولكنى لن أفرضه على أحد لأنني أؤكد أنها حياتك، وأن الحرية لك كاملة في التصرف فيها وفى إدارتها، أنا لا يهمني سوى مخلوقاتك البائسة، العاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها ومقدراتها.
أعرف أنك في المرحلة الثالثة ستحاول وضعي في إطار الرقيب، وسيعلو صوتك، وأنت تتشدق بكلمات مثل "حقوق"، و"حريات".
ولكن تذكر قبل أن تقدم على ذلك أن هناك آخرين لهم الحق في الحرية، وإن كان هؤلاء الآخرين من صنعك كما تتشدق دوما فإن هذا لا يعطيك الحق في العبث بمقدراتهم، وكأنك ما أبدعتهم إلا من أجل العبث بهم في وقت فراغك، تضيف وتحذف وتشوه بينما بين يديك كوب شاي دافئ بالنعناع، تفعل ما تفعل بكل برود كقاتل دون أن تدري بأن هناك من يشقى بأفعالك" .
وقت الحساب
وتتصاعد نبرة التحدي والصراع بين الكاتب والرقيب، الذي يواجه الكاتب باتهامات عدة، فيقول له: "الآن حان الوقوف في وجهك، حان وقت الحساب، فلتستعد أيها المغرور، وإن كنت في الحقيقة في غاية الامتنان لغرورك هذا، شعورك بأنك الوكيل الوحيد ، شعورك بأنك المالك لحق التصرف جعلك في حالة استرخاء، هذه الحالة التي ستجعل الإيقاع بك في غاية السهولة، شعورك المبالغ فيه بالقوة
جعلك لا تقدر قوة الآخر من أمامك بل جعلك أصلا لا ترى أحدا أمامك، إنك لا تشعر بذاتك سوى أنك حاصل ضربك في ثلاثة".
ربيع حبيبين
ويمضى الراوي بنا نحو تحقيق الأسطورة بالحب، والمشاعر والمعاني العميقة التي تتجلى بين عاشق النعناع وحبيبته فيقول بطله: "في ذلك اليوم قابلت ريم عند شجرتنا، حكينا وضحكنا واستظللنا بالرجل المظلة، حكيت لها بعد تردد كل شيء عن النعناع الذي ينتشر فوق جسدي، نظرت في عينيها، تخيلتها في عدم التصديق، فتحت قميصي، كشفت عن نعناع صدري، وهي مغمضة العينين، شمتها بعنف، فتحت زر بلوزتها العلوي، وهي مغمضة العينين أيضا، مدت يدها داخل ملابسها من تحت إبطها اقتطفت زهرة ياسمين".
وعلى الرغم من أن الرقيب أراد محاسبة الكاتب العاشق على قصة كتبها ويتخذها دليلا ضده!، فإن الكاتب يخوض صراعه لتنتصر لغة الحب والحرية فيقول بطله: "تلاشينا من أمام الجميع، صرنا كعقلتي إصبع أو كحبتي فول واحدة بنكهة النعناع، والأخرى بنكهة الياسمين، تدحرجنا حتى وصلنا إلى حوض النعناع واندسسنا وسط ورقه الكثيف، اختفيت وريم عن كل العيون.
.... كان هنا ولد يشعر بالوحدة، ظل يكتب ويخترع في أناس وحكايات تشعره بالدفء، وتعطى لحياته معنى، كان هنا ولد من يجده يأتي به إلى العنوان التالي...
في كل يوم تأتينا النداءات لكننا لم نعبأ بما نسمع، فقط بقينا متعانقين في ظلال ورق النعناع، الذي لم يذبل، ولم يفقد رائحته أبدا.
هاني عبد المريد مؤلف رواية "أنا العالم"، قاص وروائي مصري أصدر من قبل "انحناءة داخل تابوت"، قصص 2003 ، و"عمود رخامي في منتصف الحلبة"، رواية 2003، و"شجرة جافة للصلب" قصص 2005.
وقد حصلت روايته "أنا العالم" على جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام.



