ذو النون: رأيت الله فى معابد الفراعنة!
كتب - سيد طنطاوي
من صعيد مصر «الجوانى»، وتحديدًا من «النوبة»، جاء حاملًا نور العارفين، ليستقر بسوهاج، ويقدم التصوف بمذاقٍ مصرى لم يعرفه أحد من قبله، ليصبح علمًا تتحدث عنه المؤلفات، ويحتل مكانةً عند أصحاب التصنيفات والمقامات.. إنه ذو النون المصرى، ثوبان بن إبراهيم، كنيته «أبو الفيض» ولقبه «ذو النون»، أحد أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى ومن المحدثين الفقهاء.
يقول أبوالعلا خليل، الباحث فى الآثار الإسلامية تسميته بـ«ذى النون» تعنى أحب الحوت وأُطلقت عليه تشبيهًا بنبى الله يونس عليه السلام.
كان يقول لتلاميذه، وهو يوصيهم: «جالس من تكلمك صفته، ولا تجالس من يكلمك لسانه»، ويقول منشدًا: «أموت وما ماتت إليك صبابتي/ ولا رويت من صرف حبك أوطارى»، وسأله رجل: «متى تصح عزلة الخلق»؟ فقال: «إذا قويت على عزلة النفس» ويقول ذو النون: «من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه»، ويقول: «لا تسكن الحكمة معدة مُلئت طعامًا»، لكن ذا النون من معتدلى الصوفية، وهو يتحدث فى مقالاته عن المعرفة الإلهية أكثر من تحدثه عن الاتحاد والوصول، إذ يقول: خرجت حاجًا إلى بيت الله الحرام، فبينما أنا بالطواف إذ بشخص متعلق بأستار الكعبة، ويبكى ويقول فى بكائه: «كتمت بلائى عن غيرك، وبحت بسرى إليك، واشتغلت بك عمن سواك، عجبت لمن عرفكَ كيف يسلو عنك، ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك؟!».. ثم قال: ذَوَّقتنى طيب الوصال فزدتنى/ شوقا إليك مُخامر الحَسَراتِ
أبوالتصوف وشيخه، تُعتبر سيرته فصلًا فى كتابٍ سجله التاريخ ولا يزال يدون فيه بحبرٍ لن ينتهى، يحكى صمود مصر المستمر أمام محاولات الإجبار على تغيير الهوية الدينية الوسطية لها، إلى مستنقع التطرف والمغالاة، إذ أضاءت سيرة ذى النون، طريق المحبين، وأشعلت القلوب بحب مصر الفرعونية، فسجلت حياته فك رموز حجر رشيد، قبل أن يفعلها الفرنسى القادم مع الاحتلال «شامبليون».
لم يسلم من آفة التكفير وسهام الزندقة، فبعدما تحدث وقرب الناس إليه بشرحه للأحوال ومقامات أهل الولاية، وفسّر إشارات الصوفية وكان أول من يفعلها فى مصر، فقال: «سافرت سفرة فجئت بعلم يعرفه العام والخاص ثم سافرت ثانية فجئت بعلم يعرفه الخاص وينكره العام ثم سافرت الثالثة فجئت بعلم ينكره الخاص والعام وصرت به وحيدًا فريدًا شريدًا طريدًا»، فأنكر عليه ذلك عبدالله بن عبدالحكم، فهجره علماء مصريون، وأشاعوا أنه أحدث علمًا لم يتكلم فيه السلف، إذ كان هؤلاء على مر العصور يعارضون كل محاولات التجديد، ويقدمون النقل على العقل، فيما خرج المتفيقهون على ذى النون ليصفوه بـ«الزنديق»، فقال: «وما لـى سـوى الإطـراق والصمـت حيلة/ ووضعى كفى تحت خــدى وتذكـارى.
كانت حياة ذى النون أكبر دليل على أن الطريق لا يُسد أمام العائدين، فبدأت حياته على غير طريق التصوف، بل حياة تقليدية حتى التقى «شقران العابد» –شيخه- الذى زرع فيه الحب، فأخذ بيده إلى طريق العارفين.
اعتز «ذو النون» بمصريته، إذ يقول عنه «ابن القفطى»: «كان كثير الملازَمة لـ «بربا» «معبدالفراعنة» بلدة أخميم، فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة، وفيها التصاوير العجيبة والتماثيل الغريبة، التى تزيد المؤمن إيمانًا والكافر طغيانًا»، وكان عليمًا باللغة الهيروغليفية وسجلت له محاولات لفك رموزها، وفى بحث لعكاشة الدالى المُحاضر فى جامعات لندن ومتحف «بيترى» بإنجلترا يقول إن أيوب ابن مسلمة والصوفى ذو النون المصرى وجابر بن حيان وأبو بكر بن وحشية وأبو القاسم العراقى ساهموا فى فك طلاسم الخطوط المصرية قبل قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 بألف سنة على الأقل، وكان ذو النون يفهم معانيها وينقل ما فيها من أفكار إلى الناس، لذلك يُصنف من المتصوفة المتفلسفين.
تعرض «ذو النون»، لما يتعرض له كل العارفين والمتيمين والمجددين وكل صاحب رأى مختلف، ألا وهو الوشاية عند الحاكم والسلطان، فاستدعاه فى بغداد الخليفة العباسى «المتوكل»، بعدما اشتُهر أمره وكثُر حاسدوه، الذين وشوا به إلى الخليفة، كما كانت العادة قديمًا.
استدعى الخليفة المتوكل ذا النون من مصر إلى بغداد لمحاكمته وفى محبسه كان ذو النون يناجى ربه فيقول: «لك من قلبى المكان المصون/ كل لوم عليّ فيك يهون/ لك عزم بأن أكون قتيلا/ فيك والصبر عنك مالا يكون، ويقول ذو النون: «لما حملت من مصر فى الحديد إلى بغداد لقيتنى امرأة زمنة - أى عجوز- فقالت إذا دخلت على المتوكل فلا تهبه ولا ترى أنه فوقك ولا تحتج لنفسك لأنك إن هبته سلطه الله عليك، وإن حاججته عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالًا وإن كنت بريئًا فادع الله تعالى أن ينتصر لك ولا تنتصر لنفسك فلما دخلت على المتوكل قال لى ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟ فسكت ثم قال لى لم لا تتكلم؟ فقلت يا أمير المؤمنين إن قلت لا كذبت المسلمين وإن قلت نعم كذبت على نفسى، فافعل أنت ما ترى فإننى غير منتصر لنفسى، فبكى المتوكل وقال هو رجل برىء مما قيل فيه ورده مكرمًا إلى مصر وقال وهو يودعه إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم.
توفى ذو النون عام 958، وقبره فى مصر، بجبل المقطم فى مقابر أهل المعافر، ويكفى أنه بالمقطّم، ففى اعتقاد المصريين، قديمًا، أن من دُفن بجبل المقطم سيدخل الجنة دون حساب، ويقول الشعرانى فى الطبقات الكبرى: «لما توفى «ذو النون» بالجيزة حمل فى قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس فى جنازته ولما أخرج من القارب وحمل على أكتاف الرجال جاءت طيور خضر ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره ولما دفن غابت وعندما رأى أهل مصر ذلك ندموا على ما فرط منهم فى حقه واستغفروا مما أنكروه عليه من ولايته وما ألحقوه به من الأذى فى حياته وأجلوه بعد ذلك واحترموا قبره.