"سارقة الحليب" أمٌ مثالية

كتب - حماده حسين

لن أستطيع أن أكون واحدة من هؤلاء النساء، اللواتي يبقين صامتات وجميلات بجوار أزواجهن، أو يبقين وحدهن في المطبخ، يجب أن يكون لحياة الفرد أهمية أبعد من الطبخ والتنظيف والأطفال، لا يمكنني أن أموت وأنا أغسل فنجان شاي.

هذا ما قالته مارجريت لحبيبها "دنيس" وهو يعرض عليها الزواج، كلامها عدائي تماما مع المفهوم المصري والعربي لمثالية الأم الذي يحاصرها في المطبخ وتربية الأولاد، وتقريبا لم يحدث أن ربط أحد بين "المرأة الحديدية" مارجريت ومثالية

الأم وفق أي مفهوم، قبل أن تختار قناة "إم بي سي 2" فيلم " the iron lady - المرأة الحديدية –  للعرض احتفالا بعيد الأم.

"دنيس" رجل أعمال ثري وضالع في الحياة السياسية، وافق على الزواج من مارجريت وفق قناعتها، وأنجبا توأمين "مارك وكارول"، إلى أن رحل بعد 50 سنة زواج.

هل يمكن لمارجريت التي تمتلك عيون كاليجولا – أكثر الطغاة دموية وبشاعة في التاريخ - وفم مارلين مونرو تميمة الإغراء في السينما العالمية، أن تكون نموذجا للأم المثالية وفق أي معيار؟

مارجريت مستحيل تكون أمًا، إنها وحش، هكذا كان يهتف الرافضون لسياستها، فيما كانت هي تأسى على ما ظلت تعتبره أكبر المشكلات: إننا نعيش بين ناس يهتمون بالمشاعر أكثر من الرؤى والأفكار.

لسان حالها يحذر:

انتبه لأفكارك لأنها تصبح كلمات

انتبه لكلماتك لأنها تصبح أفعالا

انتبه لأفعالك لأنها تصبح عادة

انتبه لعاداتك لأنها تشكل شخصيتك

انتبه لشخصيتك لأنها تصبح قدرك

 

 

عندما فازت في انتخابات حزب المحافظين، عينت وزيرة للتعليم، وفى الأشهر الأولى لتوليها الوزارة، صوتت من أجل رفع استخدام الكرباج كوسيلة للعقاب، وحاولت تخفيض الميزانية العامة فرفعت توزيع الحليب المجاني على الأطفال من سن 7 إلى 10 سنوات، وخفضت الكمية التي توزع على التلاميذ الأصغر سنا إلى الثلث، واشتهرت مارجريت ثاتشر بلقب (سارقة الحليب).

شخصية جافة، حادة، عنيدة، معتدة برأيها لأقصى درجة، كانت ترى نفسها " سياسية إقناع وليست سياسية إجماع"، لا تعتبر تربية الأولاد بطولة أو إنجازا بل شيئا عاديا وطبيعيا لا يستحق التفرغ فالمنزل هو المكان الذي تذهب إليه عندما تفتقر لشيء أفضل تقوم به"، بيتها محاصر فيما جرى ويجري وسوف يجري على مستوى رئاسة الوزراء.

تربت في بيت ليس فيه من حوارات إلا السياسة وضغط الميزانية من أجل تمرير بؤس وقسوة الأيام، لحظة أن حصلت على منحة لدراسة الكيمياء في أكسفورد طارت إلى والدتها بالخبر لكن والدتها لم تهتم، غسيل المواعين كان أهم من تفوق ابنتها.

لم يكن لدى مارجريت أمل في الوصول إلى رئاسة وزراء بلادها، فذلك شيء لم تتصوره الدول الأوروبية الكبيرة، لكنها مستمرة في المحاولة وهي تردد: الهند فعلت ذلك، وهي آخر دولة كان يمكن أن تفعل، قبلت أنديرا غاندي رئيسة وزراء، حققت مارجريت الحلم وستكون الشخصية التي عصرها التاريخ على طريقة "رياض المنفلوطي – أصغر مأمور سجن في تاريخ البني آدمين- فنزلت إنجيلا ميريكل وتريزا ماي واي رئيسة وزراء ولاية دولة أوروبية كبرى.

مارجريت كانت مقتنعة تماما أن أي امرأة تجيد التعامل مع مشاكل إدارة المنزل ستكون أقرب لفهم المأزق التاريخي الذي تعيشه بريطانيا، وبما أنها أصلا ابنة بقال من مدينة نائية من تلك المدن المنسية وكانت تعمل معه، فهي الأقدر على ضبط الموازين والميزانية.

 

بريطانيا كانت إمبراطورية ظن العالم أن شمسها لن تغرب أبدا ـ بينما هي الآن دولة أطلال تعيش على حافة الإفلاس، الكل يعلم المشكلة والحل، لكن من يجرؤ على الاقتراب من:

- شعب مرهق لن يحتمل أي ضغط مادي فهو لايزال يعيش على تراكمات البؤس الذي تركته الحرب العالمية الثانية.

- اتحاد نقابات عمالية قادر بإضرابات العمال أن يشل البلاد، جعل من لندن صورة طبق الأصل من القاهرة سنة حكم الإخوان عندما اصطدم مع مارجريت، لكنه استسلم في آخر المطاف دون أي شرط، لقد كسرت شوكته تماما.

- جيش أيرلندا الشمالية الأحمر الذي يطلب انفصال بلاده عن التاج الملكي البريطاني، ووصل في طلبه حد الأسى على فشل محاولته في اغتيال تاتشر ووزرائها، والابتهال إلى السماء لنجاح المحاولة التالية.

بأغلبية ساحقة أصبحت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء لبريطانيا، هتفت مع الشعب: هيا نستعيد العظمة لبريطانيا، أدت معهم صلاة

صلاة القديس فرانسيس الأسدي:

-    حيث توجد الخلافات فلنأتِ بالتناغم

-    حيث توجد الأخطاء فلنأتِ بالحقيقة

-    حيث يوجد الشك فلنأتِ يالإيمان

-    حيث يوجد اليأس فلنأتِ بالأمل

وراحت بمنتهى الصلابة والقسوة تستعيد مجد بريطانيا المفقود،

بضغط الإنفاق العام وتخفيض الميزانية إلى حد تنشيف الريق، باعت مصانع كبيرة وشركات أكبر، فرضت ضرائب جديدة، أغلقت مناجم، الأسعار ارتفعت، وكذلك معدل البطالة، انفجر الشارع ضدها، خفضت التواجد العسكري إلى أدني مستوى ممكن في جزر الفوكلاند فطمعت فيها الأرجنتين واجتاحتها، وزراء حكومتها طالبوها وربما توسلوا لها التراجع أو على الأقل تطبيق سياستها بالتدريج، وردت: الدواء مر لا يطاق ولا يحتمل، لكن لا بديل عنه كي يتعافى المريض ويبرأ، وقفت وسط البرلمان تردد جملتها الأشهر: أيها السيد يمكنك أن تتراجع، لكن هذه السيدة لا تتراجع أبدا.

 

 

سألها المذيع: ما هو الشيء الموجود لدى الأمريكان وتتمنين

لو انتقل لبلادك؟

أجابت: هم لا يخافون من النجاح، نحن وأوروبا والبلاد التي لها

إرث تاريخي كبير غارقون في ماضيهم مشغولون بما حدث، لكنهم مشغولون بما يمكن أن يحدث.

التناغم بينها وبين الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الذي هو أصلا ممثل كان مدهشا، بلاده كانت ترفض قرار الحرب الذي أعلنته تاتشر ضد الأرجنتين لتحرير جزر الفوكلاند، لكنه كان معجبا بإصرارها على عدم التفاوض مع الغزاة.

على خلفية حرب الفوكلاند، التقى منتخبا البلدين "الإنجليزي والأرجنتيني في الدور قبل النهائي في مونديال 86 وهي المباراة الخالدة بأجمل هدف في تاريخ اللعبة، وأشهر وأهم هدف مسروق والاثنان لمارادونا.

تاتشر كانت مهندسة إنهاء الحرب الباردة وتسليم قيادة العالم إلى الولايات المتحدة منفردة، فيما حفظت لبريطانيا مكانها الثابت على يمين الإمبراطورية، كانت الأكثر بريقا وحضورا وهي تحتفل وسط 40 من قيادات العالم بانهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية سباق التسليح المجنون، فيما كان حزبها ينقلب عليها ويطيح بها، كثيرون نصحوها بعدم السفر إلى احتفال نهاية الحرب الباردة والبقاء في بريطانيا لوقف الانقلاب عليها فردت: إنهم يعرفون مبادئي جيدا، لست في حاجة لأن أشرح لأحد.

في مذكراتها وصفت ما فعله معها زملاؤها في الحزب:

"كانت خيانة ذات وجه مبتسم، ولعل هذا أسوأ ما حدث "

لكن هذه الخيانة لم تعن الشيء الكثير، فالأسطورة اكتملت وعرف العالم مارجريت تاتشر بـ "أم إنجلترا الحديثة" و"المرأة التي غيرت وجه التاريخ".

 

في مذكراتها أيضا كتبت عن زوجها:

دنيس لم يتركني وحدي أبدا، كان لي نعم الرجل، ونعم الزوج، ونعم الصديق.

قرار منع الحليب عن الأطفال الذي منحها لقب "سارقة الحليب"، كان هو القرار الوحيد في حياة تاتشر الذي تراجعت عنه، على أنها وهي طالبة في الجامعة كانت عضوة في الفريق الذي طور تكنولوجيا حفظ الآيس كريم من الذوبان.