عاجل
الجمعة 12 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
اعلان we
البنك الاهلي
المتحف المصري الكبير.. حيث تتنفس الحضارة وتتكلم الحجارة

المتحف المصري الكبير.. حيث تتنفس الحضارة وتتكلم الحجارة

في قلب الجيزة، عند حدود الصحراء التي شهدت قيام الأهرامات، يقف المتحف المصري الكبير كأنه وعد جديد من مصر للعالم.. وعدٌ بأن الذاكرة لا تموت، وأن الحضارة مهما مرّ عليها الزمن، تظل قادرة على أن تُبهر من يراها للمرة الأولى.



 

حين تخطو أولى خطواتك داخل هذا الصرح، تشعر أن الهواء نفسه مختلف. فيه رائحة التاريخ، وصدى الأصوات القديمة التي ما زالت تتردد بين الجدران: أصوات البنّائين والكهنة والملوك.. كأنهم جميعًا عادوا ليستقبلوا أبناءهم بعد آلاف السنين.

 

توت عنخ آمون.. الطفل الذي صار رمزًا للخلود

في قلب المتحف، تقف قاعات الملك توت عنخ آمون كأنها مملكة من الضوء. هنا، لا نرى مجرد كنوز ذهبية، بل نرى وجه التاريخ في أنقى صوره. القناع الذهبي الشهير، بتلك الملامح المطمئنة والعينين اللتين تريان ما وراء الزمن، يُشعرك أن الملك الشاب لم يمت يومًا، بل انتقل من مقبرته في وادي الملوك إلى ضوء الحياة في المتحف المصري الكبير.

 

كل قطعة من مجموعته، التي تجاوزت خمسة آلاف قطعة، تروي فصلًا من الحكاية: العرش الذهبي، والعربة الحربية، والصدريات المرصعة بالأحجار، والأواني التي كانت تحفظ أسرار الجسد والروح. هي ليست آثارًا، بل رسائل من قلب الزمن تقول لنا: "الجمال أيضًا يمكن أن يكون وسيلة للخلود".

 

رمسيس الثاني.. الملك الذي يبتسم في وجه الزمن

ما إن ترفع بصرك نحو بهو الدخول حتى يستقبلك رمسيس الثاني بوجهه المهيب وابتسامته الهادئة. يبدو كأنه يعرفك منذ زمن، كأن بينكما حكاية قديمة. حُمل التمثال الضخم في رحلة دقيقة من ميدان رمسيس إلى هنا، وكأنه عاد إلى مكانه الطبيعي، بين الأهرامات التي شهدت مجد أسلافه. رمسيس لا يقف هنا كتمثال من حجر، بل كرمز لثقة المصري في نفسه، وفي قدرته على أن يحاور الزمن بدلًا من أن يخضع له.

 

الباروكة الملكية.. جمالٌ له معنى

وفي قاعات الحياة اليومية، تتجلى الباروكة الملكية التي كانت رمزًا للنظافة والهيبة في آنٍ واحد. تأمل تفاصيلها الدقيقة وستدرك أن المصري القديم لم يرَ الجمال ترفًا، بل جزءًا من النظام الكوني. كانت الباروكة تُنسج من الشعر الطبيعي والألياف النباتية، وتُزين بالذهب والخرز، لتصبح تاجًا يوميًا يعبر عن النقاء والاحترام. إنها قطعة فنية صغيرة، لكنها تكشف عن فلسفة كبيرة: أن الجمال شكل من أشكال الاحترام للذات وللحياة.

 

سقف النجوم.. السماء التي لا تغيب

وفي ركن آخر من المتحف، ترفع رأسك فتقابل سقفًا مغطى بالنجوم الزرقاء، منقولًا من مقابر الملوك. هناك تدرك أن المصري القديم لم يكن يخاف الموت، بل كان يراه استمرارًا للحياة في عالم آخر أكثر صفاءً. ذلك السقف لم يكن مجرد زينة، بل خريطة روحية، تقود الروح نحو الخلود بين نجوم السماء. في حضرة هذا الجمال الصامت، تشعر أن الفن والدين والعلم والروح كلها كانت لغة واحدة في حضارة وُلدت لتبقى.

 

المتحف.. رسالة من الماضي إلى المستقبل

المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى حديث أو مشروع قومي ضخم، بل هو جسر بين العصور. كل قطعة هنا تحمل نبض صانعها، وكل زاوية تُذكّرك أن مصر لم تكن يومًا مجرد أرض، بل روح تسكن التاريخ. إنه مشروع أجيالٍ آمنت أن الحفاظ على الماضي هو الطريق إلى المستقبل.

 

وأنا أسير بين قاعاته، كنت أشعر أنني لا أزور متحفًا، بل أزور مصر ذاتها، مصر التي في القلب، ومصر التي في الحجر، ومصر التي تبتسم من خلف زجاج العرض كما لو أنها تقول: "أنا هنا.. ما زلت أحيا".

 

 يمنى خالد محمود باحثة دكتوراه في علوم التراث والمتاحف.. حاصلة على درجة الماجستير بتقدير امتياز في تخصص الدعم المالي المستدام للمتاحف جامعة حلوان.. مسؤول ومتخصص قسم الدعم المالي بالمتحف المصري الكبير.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز