أتابع بكل سعادة ظهور صانع الثقافة ورجل الدولة المقدر المهندس محمد أبو سعدة رئيس جهاز التنسيق الحضاري بوزارة الثقافة في مسألة تطوير العتبة، وحديقة الأزبكية.
وإذ حاول هذا الجهاز المهم منذ تأسيسه محاولات عديدة لحضوره في حياة المصريين، وأسهم في مشروعات مهمة كان أبرزها تطوير شارع المعز لدين الله الفاطمي، والذي تراجعت الفعاليات الثقافية فيه بعد الاحتفاء بتطويره المعماري، ولعلها تعود.
وكان الحوار والنقاش العام حوله آنذاك يستهدف إعادة إطلاق الحرف التراثية وحوانيت العطارة والأقمشة وقطع الأرابيسك وفنون الإبداع المصري بالطرق على النحاس ونحت الخشب، والمطاعم التقليدية وما إلى ذلك.
وقد شمل الاقتراح تعميم الملابس البلدية التاريخية لأصحاب المحال هناك، كي يعود الشارع بمقاهيه كما كان وبطبيعته التاريخية كقطعة حية من التاريخ المرتبط باللحظة المعاشة، ولا أعرف ماذا تم في هذا الإطار العام، ذلك أن إحياء العمارة دون الإدماج البشري فيها وطرح رؤى للعمل والحياة كبعث للتاريخ في ثوب معاصر لا يؤدي إلا لإحياء التراث المعماري فقط، وهو أمر يتجاوز قدرات جهاز التنسيق الحضاري منفرداً، إذا ما أردنا حقاً ذلك الإحياء الحي في إطار التنمية المستدامة.
ومنذ سنوات ظل مشروع القاهرة الخديوية أملاً كبيراً منذ إعادة افتتاح المسرح القومي بالعتبة.
وقد لمست مؤخراً أثناء تجوالي بمنطقة وسط القاهرة الاستعادة البهية لأناقة المباني بالتدريج، ويحدث هذا منذ سنوات عشر بشكل هادئ ومتواتر لكنه يعبر عن إرادة سياسية تقف خلف هذه الرؤية الاستيعادية لمنطقة وسط المدينة.
وإذ أثمن الإنجاز الرائع لعودة حديقة الأزبكية إلى الحياة، تلك التي نتوق جميعنا إلى استعادتها سعدت للغاية بالنظرة المحبة لأهل مصر في أسواق العتبة.
إذ إن استعادة النظام الحضاري هناك يضع نصب عينيه الناس وتجارتهم وأسواقهم الشعبية الذين يحبونها وتوفر لهم كل الاحتياجات على تنوعها، كما يفتح الأمل أمام عودة الحياة الثقافية والفنية حية هناك من جديد.
وإذ يبدأ المشروع من حقيقة ضرورة إصلاح البنية التحتية في العتبة، وهو اعتراف بحق الناس في خدمة مرافق حضارية وآمنة، حتى يمكن إعادة تنظيم السوق الكبرى وامتداداتها المتعددة، فهي تبدأ بداية حقيقية تحقق الاستجابة لرغبات قطاع شعبي كبير هناك يعمل ويتردد على المنطقة التاريخية.
ووضع مسارات منظمة للحركة وإطلاق طاولات حضارية بالغة البساطة والأناقة بدلاً من تلك الملقاة على الأرض أو المنتشرة بطريقة لا تعبر عن نظام أو جمال، فهو رؤية تفهم طبيعة السوق الكبير وطبيعة الباعة والبضائع والزبائن.
فهي السوق الشعبية الكبرى في مصر وليس من الضروري لروادها أن يقوموا بالشراء، فهذه أيضاً طريقتهم في التنزه والشعور بأنهم أعضاء في جماعة شعبية كبيرة تفكر وتتعرف وفقاً للرغبة المشتركة في التمتع بالتجمع العام.
ولعل إعادة الجمال والنظام مع الاعتراف بهذه السوق لهي بداية حقيقية لاستعادة رونق القاهرة الخديوية ذلك أنه لا يمكن العمل على إعادة بهاء المباني التاريخية دون إعادة تنظيم الجماعة المصرية التي تتحرك داخل هذا الفضاء المعماري التاريخي الرائع.
وهي في تقديري مسألة تحتاج أيضاً إلى ضبط الأًصوات كما يتم ضبط طريقة عرض البضائع، وحدة المسموع المرئي يجب أن تصل إلى منع مكبرات الصوت المرتفعة والسماعات الكبيرة التي تخترق آذان المارة العابرين.
وفي ذلك عودة إلى الأناقة الحضارية التاريخية مع الحفاظ على السوق الشعبية الكبرى وتطويرها نحو تنسيق حضاري معاصر.
ولقد أثبتت تجارب البيئة الحضارية التي تحترم المصريين نجاحها في عدد من المشروعات الكبرى والتي حظيت بمتابعة ومراقبة منتظمة مثل مشروع مترو الأنفاق على سبيل المثال.
ولإتمام عمل تلك السوق بشكل حضاري لابد من متابعة حفظ النظام العام داخلها.
وكلي ثقة في حضارة المصريين السلوكية وتقديرهم للبيئة الحضارية التي تحترمهم، وهم بالفعل سيلبون هذا النداء بكل الانضباط والسلوك الحضاري، كما اعتدنا منهم.
هم فقط ينتظرون الفضاء والسياق العام الحضاري، وسيدخلون فوراً إليه، وسيصنعون المشاهد الحضارية التي تتسق مع عودة بهاء العمارة وسلامة البنية التحتية وحضور النظام العام.
وفي هذا أمل كبير وخطوات واقعية تحمل خيالاً سياسياً حضارياً لعودة صورة مصر من قلب أكبر أسواقها الشعبية، والتي لا تزال هي المقصد الشعبي الأول ليس لسكان القاهرة فقط، بل ولكل القادمين من جميع أنحاء مصر، ذلك أن العتبة الخضراء أو الزرقاء هي في الوجدان الشعبي سوق إعداد العرائس للزواج، وغنى لها المصريون الأغاني الشعبية لأنها كما غنوا، (العتبة جزاز (زجاج) والسلم نيلو في نيلو وهو قماش ناعم لامع تستخدمه العروس)، فقد كانت حقاً العتبة حلماً حضارياً أنيقاً لامعاً كالزجاج ناعماً كالحرير على كونها سوقاً شعبية، وها هي تعود وننتظرها بعد نجاح المرحلة الأولى إلى المراحل المقبلة، عودة الصورة الحضارية للقاهرة التاريخية علامة مهمة على صورة مصر الحضارية، ودليل على أهمية العمل الثقافي متجسداً في الثقافة كسلوك يومي معاش.



