مروة فتحي
كل الطرق تؤدي إلى "أمك"
ماذا يجول في خاطرك عندما تسمع أو ترى لفظ "أمك" أو عبارة "عند أمك"؟
بالتأكيد ستعقد حاجبيك، وربما تظن أنها سُباب أو شتيمة أو حتى سخرية وتهكم… لكني هنا لا أريدك أن تسوء الظن بي أو تأخذ الموضوع بشكل سطحي بل دعنا نفكر بعمق ونغوص في اللغة أكثر لنكتشف أسرار الكلمة ومعانيها .. أليس كلمة "أمك" لغة عربية فصحى؟ .. أليس تم استخدامها في أبيات الشعر عند العرب؟ فمثلاً تقول الشاعرة الخرنق بنت بدر في هجاء قديم: "ألا ثكلتك أمك عبد عمرو"، وهذا يوضح أن الكلمة كانت جزءًا من اللغة العربية الفصحى ومستخدمة بشكل طبيعي في التعبير الأدبي، وأيضًا يذكر الحديث الشريف أن الرسول ﷺ حين سُئل: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟" قال: "أمك، ثم أمك، ثم أمك"، ما يؤكد علو مكانة الأم وأهمية رعايتها، فهل نعلم لماذا تحولت كلمة "أمك" أو عبارة "عند أمك" من رمز للحنان والعطاء إلى وسيلة سخرية ودلالة على الصعوبة أو الاستحالة؟
كلمة "أمك" في العربية الفصحى ليست مجرد لفظ عابر، بل هي رمز للرعاية والحنان والحماية، وتعكس مكانة الأم المقدسة في مجتمعنا، وتعني كلمة أمك الوالدة، وهي تأنيث لكلمة "أب" وتطلق على الأم، وقد تعني الكلمة أيضًا أصل الشيء أو عماده، حيث يُقال "أم" الشيء بمعنى أصله ومجمعه، كما في قولهم "أم" الشيء بمعنى القصد إليه، وفي وقتنا الحالي تستخدم عبارة "عند أمك" للإشارة إلى الصعوبة أو المستحيل، فعندما يطلب شخص من آخر شيئًا يبدو بعيد المنال، يقال له: "هتلاقيه عند أمك"، أي ليس متاحًا بسهولة أو يكاد يكون مستحيلًا، هنا يتحول المعنى من رمز للأمان والحنان إلى وسيلة للتهكم أو السخرية، دون المساس بمكانة الأم نفسها، بل كنتيجة لتطور الاستخدام الشعبي للغة، ولكن بعيداً عن التحليل اللغوي للكلمة، دعونا نتساءل ماذا يجد الإنسان عند أمه؟ بالتأكيد سيجد الحب والحنان والدفء والعطف والاحتواء.
الكلمة لا تحمل فقط معنى حرفيًا، بل تؤثر على شعور الإنسان بالأمان النفسي والانتماء الاجتماعي، فهي تذكرنا بالمكان الذي يبدأ فيه الإنسان حياته ويشعر فيه بالاحتواء والدعم، وبالتالي تصبح الكلمة رمزًا للثقة والطمأنينة، وليس مجرد لفظ يقال على سبيل المزاح أو السخرية، هذا البعد النفسي يجعل للكلمة قيمة تتجاوز حدود اللغة نفسها، لأنها مرتبطة بعلاقاتنا الأولى والأعمق مع الحياة.
لكن هذا التحول في الكلمة ليس مقتصرًا على مصر فقط، فقد حدثت واقعتان في الولايات المتحدة توضحان كيف أن الكلمة قد تستخدم خارج سياقها الأصلي، الأولى في البيت الأبيض عندما سأل صحفي المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت عن سبب عقد القمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في بودابست، ردت بسخرية قائلة: "عند أمك" وهو تعبير يجمع بين الفكاهة والسخرية في الوقت ذاته، أما الواقعة الثانية فكانت في البنتاجون، عندما سأل نفس الصحفي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية شون بارنيل عن سبب اختيار وزير الدفاع ربطة عنق بلون يشبه علم روسيا، جاء الرد الساخر: "أمك هي اللي اشترتها"، مما أثار جدلًا واسعًا، وتوضح هذه الوقائع أن الكلمات، حتى تلك التي تحمل أصلاً طيبًا ومقدسًا مثل "أمك"، قد تتغير مع مرور الوقت بحسب السياق الاجتماعي والثقافي، وتستخدم في بعض الأحيان للسخرية أو التحدي دون أن تقلل من مكانة الأم نفسها.
في التراث الشعبي المصري، كثير من الحكايات والمواقف استخدمت كلمة "أمك" لتوضيح الصعوبة أو المستحيل، لكنها في الوقت نفسه تحمل رسائل عن الحنان والاحتواء، على سبيل المثال، تقول إحدى الحكايات الشعبية: "روح عند أمك تدلعك"، وهنا يظهر التناقض بين الاستخدام الساخر للكلمة واستخدامها الأصلي للتعبير عن العطاء والرعاية، ما يبرز غنى الكلمة وقدرتها على التعبير عن مفاهيم متعددة بحسب السياق.
تتمتع الأم بمكانة خاصة في كل المجتمعات، فهي الركيزة الأساسية لتكوين الأسرة وصحة الطفل النفسية والجسدية، ومصدر الاستقرار والأمان داخل الأسرة، وفي مصر تولي الدولة المصرية اهتمامًا كبيرًا بدور الأم، حيث تمثل محورًا رئيسيًا في السياسات الوطنية المتعلقة بالصحة والتعليم والرعاية المبكرة.
وتشمل جهود الدولة برامج لتعزيز وعي الأمهات بالتغذية السليمة، والرعاية النفسية للأطفال، ومكافحة العنف داخل الأسرة، فضلًا عن مبادرات صحية لمتابعة الحمل والولادة الآمنة، وحملات للتطعيم والصحة الإنجابية، كما تؤكد تقارير المجلس القومي للطفولة والأمومة أن دعم الأمهات ليس مجرد واجب اجتماعي، بل استثمار في بناء الإنسان منذ لحظة ميلاده، بما يعكس أهمية الأم في المجتمع المصري على المستوى الرسمي والعملي.
وتشمل مبادرات وزارة الصحة المصرية تطبيقات لمتابعة المرأة الحامل، حملات غذائية، برامج للتوعية بالصحة الإنجابية، وحملات لتعزيز التغذية السليمة ومناهضة العنف داخل الأسرة، وتثبت هذه المبادرات أن الأم ليست مجرد فرد في الأسرة، بل عنصر محوري في المجتمع والسياسات الوطنية، وبذلك، تصبح كلمة "أمك" أكثر من مجرد لفظ؛ فهي تحمل ثقلًا اجتماعيًا وإنسانيًا، وتذكرنا بدور الأم الحقيقي في حياتنا منذ ولادتنا.
الألفاظ المرتبطة بالأم لها أثر مباشر على نمو الأطفال وفهمهم للعلاقات الأسرية، إذ تشير الدراسات النفسية إلى أن سماع الطفل كلمات مرتبطة بالحنان والأمان، مثل "أمك"، يعزز الثقة بالنفس والشعور بالأمان العاطفي، وعندما تتحول هذه الكلمات إلى مزاح لاذع أو سخرية، قد يتم فهم السياق بشكل سلبي، ما يجعل من المهم إعادة الكلمة إلى معناها الإيجابي.
مع ضغوط الحياة المعاصرة وتغير الأدوار داخل الأسرة، بدأت بعض المفردات، حتى تلك التي تحمل أصلاً طيبًا، تستخدم في سياقات سلبية أو سوقية، إذ أن استخدام اللغة في مواقف السلطة أو المزاح اللاذع ساهم في تحويل كلمة "أمك" من رمز للحنان والأمان إلى أداة للسخرية، كما أن تغير الأدوار الاقتصادية والاجتماعية للأم، مثل كونها عاملة، أو تعدد مسؤوليات الأسرة، أثر على نظرة المجتمع للأم والمفردات المرتبطة بها، وجعل بعض التعبيرات تفهم خارج سياقها الأصلي.
في النهاية، كلمة "أمك" ليست مجرد لفظ، بل جسر يربط بين اللغة، والمجتمع، والهوية الإنسانية، وتحولات الكلمة على مر الزمن تكشف كيف يمكن للغة أن تعكس الضغوط الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية والثقافية، لكنها أيضًا تذكرنا بأن لكل كلمة أصلها ومعناها الحقيقي، لذا يجب أن نستعيد معنى الكلمة من السخرية أو المزاح اللاذع، ونعيدها إلى مكانها الطبيعي كرمز للحب، والحماية، والدفء، فكل الطرق، في النهاية، تؤدي إلى "أمك".






















