أ .د/ حسن غنايم
الحفاظ على الآثار المصرية ضرورة حضارية إسلامية
يرى بعض المنتسبين إلى الإسلام أن مظاهر الاهتمام والاحتفال بالآثار عودة إلى عبادة الأصنام والأوثان، رغم أن الإسلام عندما دخل مصر ورأى الصحابة الآثار المصرية الفرعونية القديمة المنتشرة في المعابد، وكذلك الآثار المسيحية التي انتشرت في الأديرة والكنائس، فلم يصدروا رأيًا أو فتوى تمس الآثار الموجودة، بل ساعد الصحابة أهل مصر في ترميم الكنائس، وحافظوا على الأمن والتعايش السلمى والحضاري داخل المجتمع.
إن الحفاظ على الحضارة المصرية وتاريخها البعيد هو الركيزة الأساسية نحو إدراك حاضرنا ومستقبلنا القريب، من أجل معرفة حقيقية بالنفس وبالتاريخ، فبالتاريخ يعرف الإنسان نفسه ويصنع حضارته، وتاريخ الحضارات هو وعاء التجربة البشرية فيها المتصلة على الزمن والمتمثل في العقائد والقيم.
ومن الحق أن نقول إن الإسلام لم يقطع ما بينه وبين الأمم السابقة عليه من صلة، وحافظ على القيم الإيجابية وأقرها، وأنكر العادات السيئة ومنها عبادة الأصنام لأنها كانت تجسد عقيدة الشرك بالله، لذلك حطم النبي ﷺ الأصنام حول الكعبة في فتح مكة، فبعد الهجرة إلى المدينة أسس النبي ﷺ دولة مدنية تشمل جميع طوائف الشعب من اليهود والمهاجرين والأنصار وغيرهم وكتب دستور المدينة الذي يعتبره الكثير من المؤرخين مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، والمساواة والعدل، واحترام الأديان والشعائر ودور العبادة في أروع صورة للمواطنة مع الآخر، دون أدنى تمييز أو إكراه في الدين.
وعندما دخل الإسلام مصر امتزجت الحضارة الإسلامية بالحضارتين الفرعونية والمسيحية، وبُنيت المساجد إلى جوار الكنائس المسيحية والمعابد المصرية القديمة التي لا تزال قائمة وشامخة حتى الآن، ولم يتم هدم المعابد ولا الكنائس، وازدهرت الحضارة الإسلامية في ظل التداخل مع الحضارتين الفرعونية والمسيحية، ولا يقلل اشتراك الأمم والشعوب في تكوين الحضارة الإسلامية من أصالتها، فالحضارات أخذ وعطاء، ونتاج مشترك للتجربة الإنسانية عبر التاريخ.
وقد عبر الإمام محمد عبده عن مثل هذا المعنى بقوله: إن الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة ما تستحق به أن تسمى «ديوان الهيئات والأحوال البشرية»، وأن معنى عبادة وتعظيم التمثال قد مُحي من الأذهان، وأن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تُحرّم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر منها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها.
وهذا كله صحيح تاريخيًا، وقد يدل على ذلك ما أكده فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في البيان الختامي لمؤتمر الأزهر العالمي «التجديد في الفكر الإسلامي»، حيث أكد فضيلته أن الآثار من الموروث الثقافي الذي يُعَرِّف بتاريخ الأمم والحضارات، ولا تعد أصنامًا ولا أوثانًا- كما يزعم أصحاب الفكر الضال- وهى ملك للأجيال كافة وتديرها الدولة لصالحها، ويجب تشديد العقوبات على من يحاول الإضرار بها، وأكد فضيلته أن السياحة أمر تقره الشرائع السماوية، ولا بد من تصحيح ثقافة المجتمعات تجاهها، وأن من يعتدى على السائحين يعاقب قانونًا، ويجب على المؤسسات دعم جهود الدول للتخلص من شرور الجماعات المتطرفة، فالتكفير فتنة أصابت المجتمعات قديمًا وحديثًا.
ومن القواعد المقررة في الشرع قاعدة: الأمور بمقاصدها، ومعنى هذه القاعدة أن الفعل يعد خيرًا أو شرًا، ويحل أو يحرم بحسب نية فاعله، والحفاظ على الآثار- باعتبارها تاريخ وموروث الأمة من الحضارة- يعد من الأمور الضرورية ولا حرج فيه، ولا مجال هنا لنية عبادتها أو الشرك بالله، بل النية تحقيق المصلحة بالحفاظ على تاريخ وحضارة الأمم، والمقاصد الشرعية تعبر عن الأوامر والنواهي التي أرادها الشارع الحكيم، وجاءت بها الشريعة الإسلامية لتكليف العباد بها جلبًا لمصالحهم وخيرهم في الدنيا والآخرة، وتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهي كما قال الشاطبي: لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية، والمقاصد الضرورية معناها: أنها لا بد منها في قيام مصالح الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وفي عصرنا الحاضر أضاف لها الدكتور محمد مختار جمعة مقصد «حفظ الوطن» الذي يعد إضافة مهمة، لأن مصالح الأوطان من ضمن مقاصد الأديان ويتمثل حفظ الوطن في الحفاظ على استقرار الدولة، ووحدتها وأمنها الداخلي والخارجي، واحترام القيادة السياسية، والمقاصد الحاجية: هي التي يحتاج إليها الناس لرفع المشقة ودفع الحرج عنهم، ويصيبهم بفقدها حرج ومشقة، ولا تختل بفقدها حياتهم كما في المقاصد الضرورية، وأما المقاصد التحسينية : فتعني الأخذ بمحاسن العادات ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات.
ومن باب المقاصد الضرورية يكون الحفاظ على الوطن وهويته وتاريخه وأمنه وسلامته، ومن باب المقاصد التحسينية يكون الحفاظ على الآثار وترميمها والعناية بها، لتكون مصر المقصد الأساسي للعالم بما وهبها الله- سبحانه وتعالى- من حضارة عريقة، فالإسلام لا يعارض المدنية الحديثة، ولا يعارض التطور الحضاري، ولم يفرض الإسلام طريقة واحدة للمسلمين جميعًا حتى تكون منهاجًا لهم في حياتهم في كل العصور، وإنما ترك لهم التصرف في أمور دنياهم بما لا يتعارض مع شريعته، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أنس أن النبي ﷺ قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، وهذا الحديث يؤصل لفقه الواقع وفهم العصر الذي نعيشه، وفقه الواقع أصل معتبر في الشرع، يؤيده تنزل القرآن مفرقًا حسب حاجات الناس والمناسبات، ويؤيده تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد بناء على اعتبار المرحلة والواقع، وهو ما صنعه النبي ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم والتابعين ومن تبعهم من علماء الأمة، فكانوا يستنبطون الأحكام بحسب ما يقتضيه الواقع في بعض الأحيان، لذلك كان للإمام الشافعي فقهان: فقه قديم بناه على بيئة وحال وواقع أهل العراق، وفقه جديد بناه على بيئة وحال أهل مصر وواقعهم، وما ذاك إلا لتغير واقع الناس في مصر عن حال أهل العراق، وأصبحنا نسمع ونقرأ في مؤلفات العلماء قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد، فقد يتغير رأي الرجل في المسألة الواحدة بحسب الزمان والمكان.
والحق أن علينا جميعًا فهم جوهر وحقيقة الإسلام، وموقفه الرحب السمح من الحضارة بصفة عامة، ومنها الحفاظ على الآثار باعتبارها تاريخ الأمة الذي يقوي حاضرها ويستشرف مستقبلها، من أجل الرد والقضاء على التطرف والإرهاب واستئصال جذورهما من العقول والقلوب، عن طريق البناء الفكري والديني السليم، بعد انتزاع الأفكار الخاطئة والهدامة. التي عملت الجماعات الإرهابية المتطرفة على تكوينها، فراحوا يسفكون دماء الأبرياء، ويروعون قلوب الآمنين، ويعتدون على المؤسسات والأعراض والحريات، ويتهمون الناس بالكفر والوثنية، ومحاربة السياحة وهدم الحضارة بصفة عامة.
فلا بد من مواجهة الإرهاب وكشف أباطيل وضلالات أصحابه، وتفنيد شبههم وحججهم، ومنها أن الآثار- في نظرهم- من الأوثان والأصنام! لذلك لا بد من تصحيح المفاهيم الخاطئة، ونشر قيم التسامح والعيش المشترك، وترسيخ أسس وقيم المواطنة، وتعميق روح الولاء والانتماء للوطن، وتوضيح أن مفهوم المواطنة من جوهر الإسلام، ويشمل جميع أفراد الوطن ويحقق المساواة بينهم، وعدم التشبث بمفاهيم جاهلية وأفكار مغلوطة من شأنها هدم تاريخ وحضارة الأمة.
من هنا جاءت توجيهات فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية- حفظه الله- بإتمام وافتتاح المتحف المصري الكبير هدية مصر للعالم كله، للحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية المصرية، وليكون أكبر مؤسسة علمية تعليمية عالمية تقوم بعرض الحضارة المصرية القديمة، وبيان براعة المصري القديم في العلوم والفنون التي أسهمت في تقدم الحضارة الإنسانية، وللإسهام في الحفاظ على حق الأجيال القادمة في التراث والحضارة المصرية، وتنمية الوعي والفخر الوطني لدى الأطفال والشباب من أبناء مصر، ولتظل مصرنا- حفظها الله- هي المقصد الأساسي للسياح في العالم، وليكون المتحف مجمعًا ثقافيًا وسياحيًا ترفيهيًا ومركزًا للبحث العلمي وقبلة للباحثين الأثريين من أنحاء العالم كافة.
حفظ الله مصر ورئيسها وحضارتها وشعبها وجيشها وشرطتها وأزهرها وكنيستها، وأدام عليها الأمن والأمان والاستقرار والوحدة في ظل قيادة حكيمة، وأن تظل قبلة السائحين من شعوب العالم في أمن وأمان وسلام، وصدق الله سبحانه وتعالى «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين».
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد
كلية الآداب
جامعة قناة السويس
















