عاجل
الإثنين 3 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
مصر للبترول
احتفال مئوية روزاليوسف
البنك الاهلي
الحرب على «تنظيم المشايخ» فى أزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى»!

أول المعارك الفكرية:

الحرب على «تنظيم المشايخ» فى أزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى»!

عندما صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، وما تبع صدوره من تداعيات، كانت روزاليوسف (المجلة) لا تزال فكرة فى رأس السيدة «فاطمة اليوسف» وحدها.. لكن.. عندما صدر كتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين (فى أبريل 1926م)، كانت المجلة حاضرة وبقوة (سياسيًّا وفكريًّا وثقافيًّا).



 

 

ومن ثَمَّ، كانت فى صدارة المطبوعات الصحفية، التي اشتبكت مُبكرًا مع «جبهة المشايخ» التي تهب فى مواجهة كل فكر [غير تقليدى]، بصورة «شبه تنظيمية»، وكأنَّ هناك (زنبلك) -وهو الوصف الذي استخدمته المجلة فى حينه- يحركها من خلف الستار!

 

لوجه الملك لا لوجه الله!

 

كان هذا (الزنبلك)، الذي ألمحت إليه «روزاليوسف» هو «القصر الملكى» ذاته!.. إذ وَفقًا للواقع السياسى الذي كان سائدًا قبل صدور كتابى: الشيخ «على عبدالرازق» والدكتور «طه حسين»، كان القصر يتحكم بصورة «شبه كاملة» فى مجتمع المشايخ.. وهو تحكم بدأ بالتزامن مع الاستعداد لمؤتمر الخلافة الذي كان يستهدف مبايعة الملك خليفةً للمسلمين (بعد سقوط الخلافة فى تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك).. ولضمان ولاء ومبايعة قيادات الأزهر وشيوخه، وقف الملك أمام فرْض البرلمان رقابة مالية على الأوقاف والجامع الأزهر.. كما ألحق الملك بالأزهر مدرستَى: القضاء الشرعى ودار العلوم، بالإضافة إلى معاهد المعلمين الأولية (وكانت جميعها تتبع وزارة المعارف العمومية)، مما أسعد الأزهريين وضمن ولاءهم للقصر!.. وترتيبًا على هذا الموقف الملكى، وقف أغلب شيوخ الجامع وطلابه ضد حكومة الوفد الدستورية (حكومة سعد زغلول).. وخرج الكثيرون منهم يهتفون بسقوط «سعد» وحكومته!

 

 

 

ويوثق، هنا، «د. سعيد عبده» فى كتابه (روزاليوسف.. سيرة وصحيفة)، الصادر فى مارس 1961م، وقائع واحدة من أهم الحملات الصحفية التي خاضتها المجلة فى وجه «تنظيم المشايخ» (الذي يحركه القصر الملكى)، على خلفية تلك المظاهرات؛ إذ كتبت المجلة تحت عنوان: «شىء من الصراحة»: إنَّ الأزهريين يقومون بحركة مُغرضة «يعضدهم فيها سرًا وجهرًا شيوخهم وعلماؤهم، ويسير المتظاهرون فى الشوارع (على عينك يا تاجر) ينادون بسقوط الوزارة والبرلمان وسعد.. وقديمًا نادى هؤلاء الأزهريون أنفسهم بحياة الوزارة وحياة البرلمان وحياة سعد، بل هم مستعدون فى كل ساعة أن ينادوا بحياة أو سقوط من تشاء، إذا عرفت كيف تحركهم، وكيف تثيرهم، وكيف تدفعهم بيد قوية. ولا نريد أنْ نقول: إنهم فى كل الأحوال أشبه بأحجار الشطرنج تحركها يد لاعب!».. وتابعت المجلة: «واليوم من هو اللاعب؟! أو ما هى اليد التي تُحرك الأزهريين؟! سؤال يستطيع أنْ يجيب عنه كل كاتب، ولكن الصراحة التامة قد تؤدى به إلى الوقوف حيث يكره»؟! يقول «د. إبراهيم عبده»: إن روزاليوسف لا تُعنى الأزهر ولا رجاله بقدر ما تُعنى الملك ومن يحيط به من رجال الحاشية، الذين دأبوا على إثارة الأزهريين ودفعهم إلى التظاهر ضد كل حكومة دستورية؛ إذ تساءلت المجلة: 

 

«هل الأزهريون مدفوعون فى حركتهم هذه بدافع الغيرة على مصلحتهم؟ كلا- لو كان الأمر كذلك لاستطعنا أنْ نجد كلمة طيبة نقولها لهم، حتى لو كانت مصلحتهم هذه تتعارض مع مصلحة الأمة، وما يجب للدستور من احترام ورعاية».

 

وواصلت المجلة: «وما حديثهم عن انتقاص حقوق الأزهر والأزهريين وتبعية مدرسة كذا أو كذا لإدارة المعاهد الدينية أو لوزارة المعارف، سوى حُجة ظاهرية تستر وراءها اليد المُحركة والسبب الحقيقى.. فالقضية -إذًا- ليست قضية انتقال اختصاص من مكان إلى مكان، فالأزهر محوط بالرعاية والعناية سواء ألحقت مدارسه ومعاهده بهذه الجهة أو تلك، ولكن الأزهريين مساقون، مدفوعون بشيوخهم وعلمائهم. وهؤلاء الشيوخ والعلماء مساقون هم أيضًا لمناهضة البرلمان والحكومة الحالية، والغرض الحقيقى هو إحراج الحكومة لخدمة (جهة) معينة تطمع فى توسيع سلطتها على حساب الأمة التي يُمثلها البرلمان». ويكاد هذا الكلام -والقول للدكتور سعيد عبده- يُفصح إفصاحًا واضحًا عن الملك، وما يرتكبه فى حق الشعب من محاربة حكومته الدستورية.

 

وتسخر روزاليوسف مما يُشاع عن أن هذه الجهة هى حزب الاتحاد؛ إذ قالت: «وأرجو ألا تتضحك -تقصد الضحك من هذه الشائعة- لأنَّ حزب الاتحاد عاجز عن تحريك نفسه، فكيف يقوم بتحريك سواه!.. هل هذه الجهة الخاصة المندوب السامى؟ كلا! لأنَّ المندوب السامى لو كان يريد استغلال الموقف لاستغله يوم ذهب إليه بعض علماء الأزهر يستعدونه على الحكومة والدستور. وأخيرًا هذه الجهة الخاصة ليست أنا ولا أنت.. بل هى الطرف الثانى!».. «والطرف الأول هو الأمة وقادتها من الزعماء».

 

وسط تلك الأجواء السياسية شديدة الاضطراب، استقالت حكومة سعد زغلول (على خلفية مفاوضاتها مع الإنجليز).. وبالتزامن مع تزايد حركة الاضطراب (السياسى والاجتماعى) فى مصر، صدر كتاب الشيخ على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» (1925م)، الذي أجهز على مشروع الملك فؤاد فى إحياء الخلافة. ومن ثمَّ انتفض «تنظيم المشايخ» عن بكرة أبيهم ضد الكتاب!.. ليلحقه فى العام التالى -مباشرةً- كتاب الدكتور طه حسين «فى الشعر الجاهلى.

 

شيوخ “عسر الهضم”!

 

عندما صدر كتاب الدكتور طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، كانت البلاد على مشارف انتخابات نيابية جديدة.. لكن لم تكن الوزارة الجديدة قد تشكلت بعد.. ووسط هذه الأجواء، اشتمت «روزاليوسف» أنَّ «تنظيم المشايخ» (الذي يحركه القصر) على وشك الانتفاض من جديد ضد «حرية الفكر».. وهو انتفاض غير برىء؛ إذ يدعم «الجهل» والتخلف الفكرى»، ويُرسخ غياب العلم والثقافة، ويُضيق على «حرية البحث الأكاديمى» فى المجتمعات العربية.. لذلك.. انطلقت المجلة -بصورة مباشرة- فى العدد (رَقْم 29)، بالتزامن مع أول التقارير التي استهدفت الكتاب (فى مايو 1926)، من أنَّ الدكتور طه حسين قد يكون صادقًا فيما ذهب إليه، وأنَّه أراد خدمة البحث العلمى «خدمة لا يريد من ورائها شهرةً ولا صيتًا عريضًا»!.. وأضافت فى لهجة ساخرة:

 

«لكن الذي نود أنْ نهتدى إليه هو ذلك (الزنبلك) الذي يُحرك علماءنا الأعلام فى دمياط وأسوان وأسيوط والإسكندرية فيهبوا دفعة واحدة زى عفريت النسوان؟!.. ترى هل قضى على مصر أنْ يتحكم فى عقول أبنائها وفى حقهم فى إبداء آرائهم نفرٌ من الشيوخ المصابين بمرض الأملاح وعسر الهضم؟».. وتابعت: «لقد آن الأوان لأنْ يفهم هؤلاء القوم ماركة المليجى والحلبى أنَّ فى مصر دستورًا وقوانين تكفل حرية الرأى وحرية المذهب».

 

وعلى الرُّغم من الانتقادات الحادة التي وجهتها الصحافة «المستنيرة» لمثل تلك الممارسات؛ فإنَّ «تنظيم المشايخ» أبى إلا أنْ يواصل «إرهابه الفكرى» إلى النهاية.. ففى أعقاب الانتخابات النيابية، وبالتزامن مع مفاوضات تشكيل الوزارة الائتلافية (وزارة عدلى يكن)، التي مارست مهامها فعليًّا بداية من يونيو 1926م، اشتد وطيس المعركة، وبدأ «تنظيم المشايخ» يتحرك نحو البرلمان والنائب العمومى (فى بلاغات رسمية)؛ إذ قدَّمَ الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر بلاغًا للنائب العمومى، فى 30 مايو 1926م، يتهم فيه الدكتور طه حسين (الأستاذ بالجامعة المصرية) بأنه ألف كتابًا أسماه (فى الشعر الجاهلى) ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم!.. وفى 5 يونيو 1926م، أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومى خطابًا يبلغ له به تقريرًا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية أسماه (فى الشعر الجاهلى) كذب فيه القرآن صراحة وطعن فيه على النبى (ﷺ)، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى بما يُخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة.. وفى 14 سبتمبر 1926م، تقدَّمَ عبدالحميد البنان أفندى، عضو مجلس النواب، ببلاغ ذكر فيه أنَّ الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع فى المحافل والمحلات العمومية كتابًا أسماه (فى الشعر الجاهلى) طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامى، وهو دين الدولة، بعبارات صريحة واردة فى كتابه!

 

الجهل بمنهجية ديكارت!

كان على النيابة العمومية -وَفقًا للكاتب والروائى «خيرى شلبى» فى كتابه محاكمة طه حسين- أنْ تتحرك، فالمسألة ليست مجرد بلاغ من فرد أو اثنين أو ثلاثة، كما أنَّها ليست من فرد عادى بل من شخصيات لها حيثيات اجتماعية. والواقع أنَّ المسألة لم تكن سهلة ولا بسيطة، فقد كنت تتحرك على أكثر من مستوى.

 

 

 

وكانت الأزمة الفكرية الحقيقية -والقول لنا- أنَّ الجوقة المنضوية تحت لواء «تنظيم المشايخ» نظرًا لضعف صلتها وقتئذ(أو انعدامها) بمناهج البحث الحديث، لم تستوعب منهج الشك (الديكارتى) الذي طبقه الدكتور طه حسين فى كتابه؛ إذ يقتضى المنهج -ابتداءً- تحرر وتجرد الباحث من أفكاره وانحيازاته السابقة حول الظاهرة محل الدراسة.. وهو ما حاول الدكتور «طه حسين» توضيحه أكثر من مرة، ولكن من دون جدوى!.. وكان جراءَ تطبيق منهج ديكارت، أنْ ذهب الدكتور «طه حسين» إلى أنَّ الكثرة المطلَقة مما نسمِّيه شِعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية فى شىء؛ وإنما هى منتحَلة مختلَقة (من انتحال الرُّواة، أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النُّحاة، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين) بعد ظهور الإسلام؛ إذ تُمثِّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثِّل حياة الجاهليين قبل الإسلام.. واستندت حجته فى ذلك إلى تباين اللغة العربية بين الجنوب والشمال فى الجزيرة العربية؛ فقد اتفق الرواة على أنَّ العرب ينتمون إلى قسمَين: قحطانية (عاربة) منازلهم الأولى فى اليمن، وعدنانية (مُستعربة) منازلهم الأولى فى الحجاز، وهم متفقون على أنَّ القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فُطِروا على العربية؛ فهم العرب العاربة، وعلى أنَّ العدنانية اكتسبوا العربية اكتسابًا، وفقدوا تدريجيًّا لغتهم الأصلية. وهم متفقون -كذلك- على أنَّ هذه العدنانية المستعرَبة إنما يتصل نسبُها بإسماعيل بن إبراهيم، ويروون حديثًا يتخذونه أساسًا لكل هذه النظرية، مُفادُه أنَّ أول من تكلَّم العربية، ونسى لغة أبيه، هو إسماعيل بن إبراهيم.. كما أثبت البحث العلمى (بما اكتُشِف من نقوش ونصوص) أنَّ هناك خلافًا قويًّا فى الألفاظ وقواعد النحو والصرف بين لغة حمير (وهى لغة العرب العاربة) وبين لغة عدنان (لغة العرب المستعربة) وهى لغة قريش؛ فكيف نظم شاعر جاهلى مثل امرئ القيس (وهو يمنى قحطانى) شِعرَه بلغةِ أهل الحجاز، لا فرق بينه وبين لغة القرآن فى لفظه وإعرابه؟

 

واستدل «طه حسين» على فرضيته السابقة، بواقع تعدد اللهجات بين القبائل، وما يفرضه هذا الواقع من ضرورة اختلاف لغة الشعر الجاهلى.. وقال فى هذا السياق: إنَّ القرآن الذي تُلى بلغة واحدة (هى لغة قريش ولهجتها) لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينًا كثيرًا، جدَّ القراء والعلماء المتأخرون فى ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علمًا أو علومًا خاصة.. وأشار إلى ما يريده من اختلاف القراءات قائلًا إنَّه يُشير إلى اختلافٍ آخر يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أنْ تُغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبى وعشيرته من قريش؛ فقرأته كما كانت تتكلم فأمالت حيث لم تكن تميل ومدت حيث لم تكن تمد وقصرت حيث لم تكن تقصر وسكنت حيث لم تكن تسكن وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفى ولا تنتقل.

 

.. وهو ما لم تستطع عقلية المشايخ على استيعابه، يقينًا!

 

رئيس نيابة “حصيف”!

 

انتهت وقائع تحقيقات النيابة العمومية، التي باشرها القاضى «محمد نور» (رئيس نيابة مصر) حينذاك، فى 30 مارس 1927م.. ولولا حصافة رئيس النيابة، لكنَّا أمام مأساة أخرى لا تقل عن مأساة «تنظيم المشايخ» الفكرية؛ إذ انطلق رئيس النيابة (من الناحية القانونية) من أنَّ المادة 12 من دستور 1923م تنص على أنَّ «حُريَّة الاعتقاد مُطلقة».. وأنَّ المادة 14 من الدستور تنص على أنَّ «حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك فى حدود القانون».. وتنص المادة 149 من الدستور على أنَّ «الإسلام دين الدولة».

 

ولفت رئيس النيابة إلى أنَّ جريمة التعدى على الأديان (وهى الجريمة المعاقب عليها بموجب المادة 139 من قانون العقوبات الأهلى) تتكون بتوافر أربعة أركان: (التعدى؛ ووقوع التعدى بإحدى طرق العلانية؛ ووقوع التعدى أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علنًا؛ والقصد الجنائى).

 

وانصب اجتهاد «رئيس النيابة» فيما يتعلق بركن القصد الجنائى على أنَّه فى أثناء التحقيق مع المؤلف أنكر نية التعدى على الدين. وأنَّ العقل -والتفسير هنا للنيابة- هو الأساس فى العلم والدين معًا.. وتابع: إنَّ للمؤلف فضلًا لا يُنكر فى سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط فى بحثه حتى تخيل حقًا ما ليس بحثًا (أو ما لا يزال فى حاجة إلى إثبات أنَّه حق).. ولأنَّه قد سلك طريقًا مُظلمًا، فكان يجب عليه أنْ يسير على مهلٍ وأنْ يحتاط فى سيره حتى لا يضل. ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة.. وحيث إنَّه مما تقدم يتضح أنَّ غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل إنَّ العبارات الماسة بالدين التي أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أنَّ بحثه يقتضيها.. وحيث إنَّه من ذلك يكون «القصد الجنائى» غير متوفر.. فلذلك: (تحفظ الأوراق إداريًّا).

 

وهو ما رسَّخَ بصورة واضحة مبدأً قانونيًّا مُهمًا مُفاده «أنَّ الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شىء وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدى شىء آخر».

 

 

على الرُّغم من قرار «رئيس نيابة مصر»، وتعديل الدكتور طه حسين لبعض الأجزاء الواردة فى كتابه وإضافة أجزاء أخرى أصدرها فى كتاب تالٍ حمل اسم «الأدب الجاهلى»؛ فإنَّ العاصفة لم تهدأ!؛ إذ تصاعدت [تدريجيًّا] خلال السنوات التالية (استمرت لنحو ست سنوات)!.. وبلغ التصعيد ذروته باستجواب برلمانى جديد فى فبراير 1932م (أىْ فى عهد وزارة إسماعيل صدقى باشا).. واتهم الاستجواب الجديد طه حسين بتبنى أفكار لا دينية!.

 

وفى يوم الأربعاء 20 مارس 1932م (وَفقًا للكاتب الكبير «محمود عوض» فى كتابه: أفكار ضد الرصاص)، عقد مجلس وزراء الحكومة جلسة خاصة (لم يتحدث خلالها سوى وزير المعارف العمومية)، وانتهت الجلسة ببيان قصير من 15 كلمة: «قرر مجلس الوزراء فصل الأستاذ طه حسين أفندى، الموظف بوزارة المعارف العمومية، من خدمة الحكومة».. وبهذا القرار القصير اعتبر رئيس الوزراء أنَّ الأزمة التي استمرت قائمة ست سنوات كاملة.. قد انتهت. انتهت بحل يرضاه جميع أطراف الأزمة: الملك فؤاد، السفير البريطانى، مجلس الشيوخ، مجلس النواب، الأزهر، حل يرضاه الجميع.. ما عدا شخصًا واحدًا يهمه الأمر: طه حسين!

 

وكان هذا الموقف الذي تبنته وزارة صدقى (بحسب توجه روزاليوسف) لا يُنبئ سوى عن أنَّ الحكومة لم تعد تملك شيئًا تقدمه لشعبها.. وفى مثل هذه المواقف، تجد الحكومات فى مثل تلك النوعية من القضايا فرصة تشغل بها الرأى العام باسم الدين!.. ومن ثَمَّ، قررت الحكومة أنْ يكون الدكتور «طه حسين» هو الضحية!، ولا سِيَّما بعد اتهام كتابه عن «الأدب الجاهلى» أيضًا (وهو النسخة المُعدَّلة من كتاب «فى الشعر الجاهلى») بالكفر!.. وعلى هذه الخلفية، تطوع «وزير المعارف» (نيابةً عن الحكومة) بإصدار تصريحات نارية ضد الخطر الذي يهدد الإسلام من جانب طه حسين!

 

وإزاء هذا الموقف، لم يكن لـ «روزاليوسف» أنْ تصمت؛ إذ تناولت تصريحات الوزير بسخرية شديدة. وصدر عددها (رَقْم 215) متضمنًا رسمًا كاريكاتيريًّا لوزير المعارف وهو يقطع شعر رأسه بسبب حملات الصحف (روزاليوسف، والسياسة، والبلاغ... إلى آخره).. وتحت الرسم الكاريكاتيرى، التعليق التالى:

 

• (وزير المعارف): طه حسين!.. طه حسين!.. دايمًا طه حسين؟!.. هو أنا كنت كفرت اللى قلت عليه كافر!.. دى حاجة تخلى الواحد يكفر!

 

وعندما صدر قرار الحكومة ضد «الكافر» طه حسين، وقف نواب البرلمان يهتفون ويصفقون لرئيس الوزراء.. ووصفوه بـ «حلمي الإسلام».. وهو ما اعتبرته روزاليوسف -مرة أخرى- نوعًا من الدجل السياسى باسم الدين.. ولخصت المجلة القضية فى عددها (رَقْم 217) بكاريكاتير ساخر جديد، أقل ما يُمكن وصفه به أنه كاريكاتير [مُزعج] للجميع (الأزهر؛ والحكومة؛ والاحتلال البريطاني، الذي كان قد انزعج من دعوة طه حسين لمجانية التعليم)!

 

وصور الكاريكاتير الذي حمل عنوان: (حماة الإسلام.. بالترتيب؟!)، كُلًّا من: شيخ الأزهر، وخلفه رئيس الوزراء، وخلفه المندوب السامى البريطانى، وهم يرتدون جميعًا زى الدينى للمشايخ!.. وتحت الرسم ترتيب حماة الإسلام: 

 

• شيخ الأزهر والإسلام؛

• ومن ورائه حاميه «حلمي الإسلام» (أىْ صدقى باشا)؛

• ومن ورائه حاميه صاحب الفخامة حلمي ظهر «حلمي الإسلام» (أى المندوب السامى البريطانى)!  

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز