«يحيى الطاهر عبد الله وأنسنة المكان».. ندوة فكرية تضيء فضاءات الجنوب في معرض الأقصر للكتاب
في قلب الجنوب، حيث تتعانق الروح المصرية مع النيل والذاكرة، تفتّحت فضاءات الفكر في معرض الأقصر الرابع للكتاب بندوة حملت عنوان «يحيى الطاهر عبد الله وأنسنة المكان»، لتعيد اكتشاف شاعر القصة القصيرة الذي جعل من الجنوب بطلاً روائيًا ومن المكان كائنًا حيًا ينبض بالعاطفة والوجدان.
الندوة جاءت تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، وضمن محور «جسور الفكر والثقافة.. الأقصر عراقة الوجود الإنساني»، ونظمتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأدارها باقتدار الدكتور حمد الله عبد الحكيم أستاذ الأدب العربي والبلاغة والنقد الأدبي، بمشاركة نخبة من الأدباء والنقاد والباحثين.
في مستهل اللقاء، عبّر الدكتور حمد الله عبد الحكيم عن سعادته بعودة معرض الأقصر للكتاب بعد غياب، مؤكدًا أنه «عرس ثقافي مضيء يضيء سماء الجنوب»، وموجهًا الشكر لوزير الثقافة، ومحافظ الأقصر، ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكل من أسهم في عودة هذا الحدث الثقافي الذي يعيد للأقصر بريقها كمركز إشعاع حضاري وثقافي.
ثم قدّم مدخلاً نقديًا ثريًا حول مفهوم الأنسنة، موضحًا أنه مصطلح بلاغي جمالي يمنح الأشياء الجامدة صفات الإنسان فيجعلها تنبض بالحياة.
وأشار إلى أن الأنسنة ليست اختراعًا حديثًا بل اكتشافًا لجذورٍ قديمة في الشعر العربي، حيث أضفى الشعراء القدماء صفات بشرية على الطبيعة والحيوان كما في قول عنترة: «يا دار عبلة بالجواء تكلمي»، لافتًا إلى أن يحيى الطاهر عبد الله امتلك هذا الحس العميق فأنسن المكان الجنوبي وأحاله إلى كيان يشعر ويتنفس.
وانتقل عبد الحكيم إلى الحديث عن تجربة يحيى الطاهر عبد الله، واصفًا إياه بـ«شاعر القصة القصيرة» الذي كتب بروح الشعر ووجدان الجنوب، فكانت قصصه مرآة للمهمشين وصوتًا للإنسان البسيط الذي يواجه قسوة الحياة بثبات القيم وصفاء الروح.
وأضاف أن المكان في نصوصه لا يكتفي بوصف الحدث بل يخلقه ويغذيه، حتى يغدو كائنًا حيًا يتألم ويحلم ويتحوّل إلى ذاكرة جمعية للناس والأرض.
أما الدكتور صلاح أبو الوفا العادلي، رئيس قسم اللغة العربية الأسبق بكلية الآداب بقنا، فقد تناول في مداخلته مفهوم أنسنة المكان في السرد الأدبي، موضحًا أن المكان في الأدب ليس مجرد خلفية جامدة، بل عنصر فاعل يشارك في صياغة الأحداث والوجدان.
وأشار إلى أن يحيى الطاهر عبد الله منح المكان هويةً إنسانية وجعله «بطلًا روائيًا» يكشف أبعاد الشخصية والمجتمع، وأن أعماله تجاوزت الوصف إلى الرمزية الثقافية والبعد النفسي، لتصبح الجنوب في قصصه مزيجًا من الذاكرة والأسطورة والواقع.
كما أكّد "العادلي" أن هوية الجنوب في أدب يحيى الطاهر عبد الله ليست زخرفًا لغويًا، بل تجربة معيشة صادقة، كتبها بعيون ابن المكان الذي يعرف تفاصيله ويشعر بآلامه. فهو لم يتحدث عن الجنوب، بل تحدث من الجنوب، فكان صوته صدى لوجدان الأرض والناس.
وفي مداخلة نقدية ثرية، عرضت الدكتورة أسماء خليل دراستها حول أدب يحيى الطاهر عبد الله، موضحة سبب تلقيبها له بـ«الكرنكي»، إشارة إلى ارتباطه الوجداني بالمكان وأصالته الجنوبية، على غرار صديقيه الأبنودي ودنقل. وأكدت أن الطاهر ظل وفيًا لجنوبه حتى بعد رحيله إلى القاهرة، حاملًا معه ذاكرة الصعيد وأحلام أهله ومعاناتهم، فجعل المكان في قصصه شاهداً على الوجع الإنساني وصراع الحلم والخذلان.
وتناولت خليل نماذج من أعماله مثل «الطوق والإسورة» و*«ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا»*، مشيرة إلى أن المكان فيها يتحول إلى صوتٍ إنساني يعكس الاغتراب والانتماء معًا، حتى يصبح البيت والجبل والشارع رموزًا لواقع الإنسان الذي يبحث عن الأمان في عالمٍ متغير.
وفي ختام الندوة، أجمع المشاركون على أن يحيى الطاهر عبد الله نجح في أن يجعل من المكان لغةً موازية للإنسان، ومن الجنوب فضاءً إنسانيًا نابضًا بالروح والذاكرة، ليبقى واحدًا من أبرز من منحوا الجغرافيا روحًا، والبيئة صوتًا، والإنسان وطنًا داخل الأدب العربي الحديث.



