مروة فتحي
اغتيال الغياب بالذكاء الاصطناعي
هل فقدت يومًا شخصًا عزيزًا عليك؟ بالطبع كلنا مررنا بتجربة الفقد، ذلك الجرح الغائر الذي لا يلتئم حتى مع الوقت، نعم الفقد موجع ومؤلم، وتجاوزه ليس أمرًا هينًا أو بسيطًا؛ فهو رحلة طويلة مليئة بالغربة والتيه، طريقها يختلف من شخص لآخر، قد تستغرق أشهرًا أو سنوات، ومع الوقت نتعلم أن نتأقلم مع النقص الذي خلفه لنا الغياب، ونعرف أن هناك جزءًا منا سيبقى ناقصًا إلى الأبد، هذا النقص نتصالح معه ونقبله كجزء من الحقيقة الإنسانية، ولا نبحث عن وهم يعيد لنا من رحلوا
ولكن في الأيام الأخيرة، تصدر تريند جديد منصات السوشيال ميديا، عبارة عن صور ومقاطع مصنوعة بالذكاء الاصطناعي تعيد الأموات ثانية للحياة وكأنهم لم يرحلوا عن عالمنا أبدً، للوهلة الأولى، المشهد يبدو مفرحًا ومؤثرًا وكأنه يخلد ذكرى جميلة لم ولن تموت، إلا أن هذا البريق سرعان ما يبهت ويتقلص ويتناقص مداه ليطفو على السطح سؤال ثقيل على النفس: هل ما يحدث هو وفاء للذاكرة، أم أنه حيلة يتم من خلالها اغتيال حرمة الغياب وتأجيل للحظة الوداع التي لا مفر منها؟
لماذا يلجأ البعض إلى "إحياء الموت" بالذكاء الاصطناعي؟ سؤال راودني كثيرًا ومع الأوفر ثينكينج الذي يسيطر على أصحاب برج العذراء أمثالي ظللت ابحث عن إجابة، سألت أطباء نفسيين وبحثت في المصادر المختلفة وتوصلت إلى أنه من الناحية النفسية، يتعامل عقلنا البشري مع الفقد باعتباره جرح لا يلتئم حتى مع مرور الوقت، لذلك يبحث كثيرون عن طرق لتقليل ألم الغياب، وأحد أبرز الدوافع هو الحنين؛ الرغبة في رؤية الملامح وسماع الأصوات من جديد، ولا يرتبط هذا الحنين فقط بالحب للشخص المتوفى، بل أيضًا بمحاولة استعادة شعور الأمان والانتماء الذي كان يمنحه لمن حوله
دافع آخر هو إنكار الفقد أو ما يعرف في علم النفس بآليات الدفاع، حيث يحاول العقل أن يرفض الحقيقة المؤلمة، فيتمسك بأي وسيلة تشعره أن الغائب ما زال حاضرًا، هنا يأتي الذكاء الاصطناعي ليمنحهم صورة أو فيديو يوهمهم بالاستمرارية
أما على مستوى تحليل الشخصية، فالأشخاص الأكثر ميلًا لهذه التجربة غالبًا ما يكونوا من الشخصيات الاعتمادية التي تجد صعوبة في الاستقلال العاطفي، أو من أصحاب الارتباط العاطفي القوي الذين يميلون لتكوين روابط يصعب كسرها، بينما قد ينظر آخرون لديهم طابع عقلاني في التفكير، لهذه الممارسات باعتبارها استنزافًا عاطفيًا يعيق التكيف الطبيعي مع الخسارة
دراسات علم النفس أثبتت أن الفقد يترك آثارًا عميقة على الدماغ والجهاز العصبي، فبحسب دراسة من جامعة هارفارد، تنشط مناطق في المخ مرتبطة بالذاكرة والمشاعر بقوة عند استرجاع صور أو أصوات الشخص المتوفى، وهو ما يجعل تجربة الحزن أشبه بإعادة معايشة الفقد مرارًا، وتشير أبحاث أخرى من جامعة شيكاغو إلى أن الحزن المطوّل قد يؤثر على جهاز المناعة ويزيد من مخاطر الإصابة بالاكتئاب واضطرابات النوم
وفي المقابل، تناولت دراسات حديثة في جامعة ستانفورد وجامعة سيول الوطنية استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي في "إحياء الذكرى"، وقد أوضحت بعض النتائج أن هذه الأدوات الرقمية قد تساعد البعض على التخفيف من ألم الفقد عبر الشعور بالقرب الرمزي من أحبائهم، لكنها أيضًا قد تعمق التعلق وتؤخر عملية التكيف الطبيعي مع الغياب، وهو ما يجعل العلماء يحذرون من الإفراط في الاعتماد عليها، مع التأكيد أن الحزن يظل رحلة إنسانية فردية لا يمكن للآلة أن تختصرها أو تحل محلها
القضية لا تقف عند الآثار النفسية فقط، فهناك جانب أخلاقي لا يمكن إغفاله أو غض البصر عنه، إذ أن إعادة إنتاج صور أو مقاطع لشخص متوفى عبر الذكاء الاصطناعي تثير تساؤلًا محوريًا: هل نملك الحق في إحياء من رحلوا دون إذنهم؟ هناك من يرى أن هذا الفعل قد يمثل انتهاكًا لحرمة الموتى، ويحول غيابهم إلى مادة للاستهلاك أو الترفيه على السوشيال ميديا، الأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تساهم بشكل أو بآخر في إفقاد الموت معناه، وتطمس فكرة الفقد باعتباره لحظة نهائية مقدسة تستوجب الاحترام، لا مساحة للتجريب التقني أو إعادة الإحياء
بالإضافة إلى ذلك، تظل الخصوصية قضية لا يمكن تجاهلها، فصور وأصوات المتوفين قد يتم استخدامها دون موافقة ذويهم، أو حتى قد تُسرق من الإنترنت وتُدمج في محتوى غير لائق، وهنا تكمن خطورة الذكاء الاصطناعي، الذي يتحول من وسيلة لتخليد الذكرى إلى أداة للتلاعب بالهوية، مما يفتح الباب أمام مخاطر أخلاقية وقانونية جسيمة
الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم المليء بالأوهام، هو الخط الفاصل بين الوجود والغياب، بين الحياة وما بعدها، قد يمنحنا الذكاء الاصطناعي وهمًا بلقاء جديد أو صورة تروي الحنين وتشبع بداخلنا عطش الذكريات، لكنه لا يملك أن يعيد الغائبين بالفعل، وما بين تسكين الألم وانتهاك الخصوصية شعرة فاصلة، علينا الحفاظ عليها دون أن نقطعها، وربما يجدر بنا أن نترك للموت قدسيته، وللذكرى نقاءها، وللقلب فرصة أن يتعلم كيف يحب رغم الفقد، ويتذكر حتى مع الغياب، لا أن يبحث عن بدائل رقمية لا تنهي الغياب بل تطيل أمده
إلى أبي الراحل: "مرت شهور على غيابك، بدت كأنها سنوات، غيابك حاضر في تفاصيل أيامي، لكنه لا يُعوض بصورة تولدها خوارزمية ولا بمشهد افتراضي يعيد ابتسامتك اشتقت إليك وأكتفي برؤيتك في أحلامي، أما في واقعي فرغم الغياب أنت حاضرًا في القلب، لا بالذكاء الاصطناعي، أرقد في سلام حتى يكون لنا لقاء"






















