
"المسرح مرآة المجتمع".. خالد جلال يقدم "حواديت" من قلب الواقع

محمد خضير
حول رؤية مسرحية تمزج بين الفن والواقع الاجتماعي، قدم المخرج الكبير خالد جلال، رئيس قطاع المسرح، أحدث إبداعاته بعرض مسرحي جديد يحمل عنوان "حواديت"، الذي يقدمه بمشاركة نخبة من خريجي مركز الإبداع الفني.. العرض جاء كلوحة متكاملة تنبض بالحياة، حيث اجتمع على خشبته الأداء المتميز والصدق الفني مع قضايا تمس المجتمع المصري بعمق، بحضور جماهيري لافت ومتنوع، أغلبه من فئة الشباب الباحث عن فن يلامس وجدانه وواقعه.
البدايات.. ومواجهة أوهام الشهرة
افتتح عرض "حواديت" أحداثه بطرح قضية معاصرة تمس وجدان الشباب مباشرة، حيث تناول مأزق الجيل الجديد أمام إغراءات السوشيال ميديا وأوهام الشهرة السريعة، وما تسببه من خيبة أمل وفقدان للبوصلة الحقيقية في تحقيق الذات.. وجاءت هذه البداية صادمة وواقعية في آن واحد، إذ سلطت الضوء على خطورة انسياق الشباب خلف الضجيج الرقمي على حساب الأحلام والمبادئ الأصيلة.
"جواهرجي النجوم"
وقد نجح المخرج القدير خالد جلال، الذي يستحق عن جدارة لقب "جواهرجي النجوم"، في صياغة هذه القضية بذكاء فني عبر مشاهد مكثفة، جسدها باقتدار نجوم الدفعة الثالثة من استوديو المواهب بمركز الإبداع الفني– دفعة علي فايز، ليمنحوا العمل صدقًا وتجديدًا يعكس حيوية الجيل الجديد.
بانوراما قضايا المجتمع
طرح "حواديت" سلسلة من المشاهد التي عكست أوجاع المجتمع وتحدياته، بدءًا من ظاهرة العنوسة والمغالاة في المهور، مرورًا بظاهرة التنمر ومعاناة الأسر مع الزهايمر عند كبار السن، وصولًا إلى معاناة بعض الشباب من الاكتئاب والتفكير في الانتحار.
وقد نجح العرض في تحويل هذه القضايا المعقدة إلى مادة فنية ثرية، مزجت بين الدراما والرمزية، مقدمةً رسالة توعوية بأن المجتمع شريك أساسي في حماية الشباب من الانجراف نحو هذه الظواهر.
المرأة بين الحرية والتهميش
ألقى العرض الضوء على قضايا المرأة داخل الأسرة المصرية، مثل تسلط بعض الأسر على الزوجات والتحكم في مصائرهن، في مقابل الدعوة إلى الاعتراف بدورها كشريك فاعل في التنمية والمجتمع.. وتناول أيضًا مشاهد مؤثرة حول استغلال معاناة بعض الأسر البسيطة، وبيع المشاعر الإنسانية في ظل ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة.
استعادة الماضي والهوية
تميز "حواديت" بلمسة حنين للماضي، إذ استعاد ملامح الزمن الجميل: لمّة العائلة، الجيرة، المناسبات الاجتماعية، والونس البسيط الذي كان يضفي على الحياة طابعًا أكثر دفئًا.. هذا الاستدعاء لم يكن مجرد حنين عاطفي، بل جاء كرسالة بأن الماضي وقيمه الأصيلة يمكن أن تكون سلاحًا لمواجهة الظواهر الدخيلة على المجتمع المعاصر.
تفاعل الجمهور
لم يكن الجمهور مجرد متفرج على خشبة المسرح، بل شريكًا حيًا في التجربة، فقد بدت مظاهر التأثر واضحة عند مشاهد الفقد والحزن، حيث ساد الصمت المشوب بالانفعال واغرورقت عيون الكثيرين بالدموع، خاصة في المشاهد التي تناولت معاناة الأسر مع فقد الأحبة أو مواجهة الزهايمر والاضطرابات النفسية.
وعلى الجانب الآخر، تمايل الجمهور مع لحظات الحنين إلى الماضي واستعادة دفء العلاقات العائلية، فتسربت إلى القاعة موجة من الابتسامات والضحكات الممزوجة بالحنين، وكأن العرض أعاد فتح أبواب الذاكرة لكل فرد.. وهذا التفاعل الكثيف كشف عن قوة النص والإخراج والأداء، وقدرة العمل على تفجير طاقات وجدانية صادقة داخل قاعة العرض، مؤكداً أن المسرح لا يزال فنًا قادرًا على لمس القلب والعقل معًا.
أداء لافت ورؤية مبتكرة
اعتمد العرض على مجموعة من المشاهد القصيرة "الحواديت" التي تشكل معًا لوحة فسيفسائية لواقع المجتمع المصري. نجح أبطال العمل– وهم مجموعة من شباب الموهوبين– في التقمص الكامل للشخصيات، مقدمين أداءً صادقًا ومقنعًا، سواء في الأدوار الكوميدية أو التراجيدية.. هذا الأداء كان مدعومًا برؤية إخراجية متماسكة لخالد جلال، الذي استطاع أن يوازن بين البساطة في الطرح والعمق في الفكرة، ليخلق مسرحًا قريبًا من الناس.
رسالة العرض
اختتم "حواديت" برسائل إنسانية مؤثرة، حملت دعوة للتفاؤل والتمسك بالقيم والأخلاق، والعودة إلى الحب والرحمة والتماسك الأسري كحلول واقعية لمواجهة الأزمات.
وأكد العرض أن الحكايات لا تنتهي، وأن "الحواديت" باقية ما دامت هناك حياة، فهي ليست فقط قصصًا للتسلية بل قوة معنوية تسند المجتمع أمام تحدياته.
رؤية نقدية
يمكن القول إن "حواديت" لم يكن مجرد عرض مسرحي تقليدي، بل تجربة جمالية متكاملة، جمعت بين البعد الفني والإسقاط الاجتماعي.. واعتمد المخرج المبدع خالد جلال على أسلوب "المسرح المرآة" ليعكس صورة المجتمع، فكان العرض بمثابة رحلة وجدانية جعلت الجمهور يرى نفسه على خشبة المسرح.. وربما تكمن قوة العمل في بساطته وصدقه، إذ لم يسعَ إلى المبالغة بقدر ما ركز على إثارة الأسئلة الجوهرية: كيف نعيد صياغة علاقتنا بالقيم؟ وكيف نواجه الظواهر التي تهدد تماسك المجتمع؟