
إلى أين ولا إلى متى
عاجل| "عالية تبحث عن ظل جديد".. حكاية بدوية نزحت قسرًا من المليحات

ساره وائل
عاشت عالية مليحات، البالغة من العمر 28 عامًا، تفاصيل تجمع "عرب المليحات" كما لو كانت نقشًا على ذاكرتها، نشأت على أطراف طريق المعرجات شمال غرب أريحا، وحملت الماء على رأسها وهي طفلة، ورافقت الأغنام في هدوء الصباح، وتسللت إلى مقاعد الدراسة وسط ظروف قاسية، تحلم بالعلم وسط العواصف.
واليوم، تقف عالية على أعتاب نزوح جديد، تجمع ما تبقى من أمتعة عائلتها في جرار استعارته من أقارب في تجمع بدوي مجاور، وتهمس بصوت مكسور: "نبحث عن ظل جديد للسكن... لم يبقَ لنا بيت ولا مأوى".
ما يحدث في لم يكن مفاجئا تمامًا، لكنه كان موجعًا كالسكاكين الباردة. 30 عائلة من عرب المليحات نزحت قسرًا تحت وطأة اعتداءات متصاعدة من قبل المستعمرين وجيش الاحتلال. سبقهم في الرحيل 20 عائلة أخرى، ومن بقي يستعد لمغادرة اضطرارية لا يعرفون فيها إلى أين ولا إلى متى.
تتذكر عالية محطات التعب الطويل في رحلتها نحو التعليم، وكيف كانت تتنقل بين الصحراء والمدرسة، وكيف كانت تكتب واجباتها تحت ضوء مصباح صغير في خيمة لا تقي من برد ولا حر، وتقول بأسى:"صبرنا كثيرًا، دافعنا عن أرضنا، لكنهم سرقوا أغنامنا، وسمّموا بعضها، وأحرقوا مسجدنا أمام أعيننا".
مشهد النزوح في عرب المليحات بدا وكأنه مشهد متكرر من فيلم طويل اسمه "التهجير القسري".
أطفال يبكون، نساء يحاولن ترتيب ما يمكن حمله، ورجال يقودون الجرارات المحملة بالأثاث والفرش والذاكرة. البعض اضطر لبيع مواشيه، لأن المكان الجديد لا يسعه، ولا يسعهم.
ويقول حسن مليحات، المشرف العام على منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو، إن ما يجري في التجمع لا يقتصر على مضايقات عابرة، بل هو تهجير مدروس وممنهج.
المستعمرون، بحسب روايته، أقاموا "حفلاً استفزازيًا" احتفالًا برحيل العائلات، ونصبوا خيمة جديدة وسط التجمع صباح اليوم، وكأنهم يحتفلون بالاستيلاء.
ويؤكد أن بؤر المستعمرين تحولت إلى مراكز يومية للإرهاب: اعتداءات جسدية، تخريب خيام، سرقة ماشية، وتحكم كامل في الطرق والمداخل، وسط حماية رسمية من جيش الاحتلال والشرطة.
من جهته، يقول "مؤيد شعبان"، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إن ما يحدث في المليحات يأتي ضمن خطة استعمارية أوسع لتهويد منطقة المعرجات، ويؤكد أن ما تتعرض له العائلات هو نتيجة مباشرة لسياسات حكومة الاحتلال بقيادة سموتريتش وبن غفير، خاصة منذ تصاعد العدوان على غزة في أكتوبر 2023.
ويضيف أن الهيئة، رغم التهجير، لن تترك العائلات وحدها، وستعمل على توفير سبل الحياة الكريمة في أماكن لجوئهم الجديدة، داعيًا الفصائل والمؤسسات والعائلات إلى عدم ترك التجمعات البدوية فريسة لهذه الحملة الشرسة.
وفي خلفية هذا المشهد، تستمر الاعتداءات على التجمعات البدوية الفلسطينية، فقد هجر الاحتلال والمستعمرون منذ السابع من أكتوبر الماضي 30 تجمعًا بدويًا، في واحدة من أوسع حملات التهجير القسري التي تشهدها الضفة الغربية.
لكن عالية مليحات، الفتاة التي قاومت لتتعلم، لا تزال تحاول أن تتشبث ببقايا الأمل، حتى وهي تحمل خيمتها على كتفها، وتبحث عن ظل آخر تسكن فيه. تقول بمرارة:"كنا نملك أرضًا.. واليوم نملك فقط ما يمكن حمله في جرار".