عاجل
الجمعة 25 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي

د. حسام الضمراني يكتب: نهاية عصر الثقافة كخدمة!

د. حسام الضمراني
د. حسام الضمراني

لا أعترض ولا أختلف بشكل مطلق على ما ورد في دستورنا المصري إن الثقافة حق لكل مواطن في مصر، وأن الدستور يضمن هذا الحق ويكفل حمايته ويدعمه من قبل الدولة، وأن الدولة تلتزم بدعم الثقافة وإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب دون تمييز، وأن الدستور يولى اهتماماً خاصاً بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجاً؛ ولكن ما اختلف عليه وبكل صراحة نظرة عدد كبير من المشاركين في الفعل الثقافي المصري بكل أشكال مشاركاتهم وتنوعاتها بأن الثقافة خدمة وستظل خدمة؛ وأرى أن تلك النظرة للثقافة لم تعد تتناسب والسياق المجتمعي والتحولات التي شهدها مجتمعنا المصري بل وإقليمياً وعالمياً، وأنه بالنظر الي تجارب العديد من وزارات ومؤسسات الثقافة الرسمية الدولية ثمة تحولات كبرى تجاوزت حد التنظير للثقافة لمستوى أكثر تقدماً برزت في آليات عمل معترف بها بقوة بكون الثقافة صناعة لها "مدخلات وعمليات تشغيل ومخرجات"، مما أدى إلى الوصول لآليات تمويل جديدة للثقافة ساهمت في تعظيم أصولها وزيادة مواردها؛ وذلك بالإنفتاح على مؤسسات المجتمع المدني، وإشراك القطاع الخاص، ورواد الأعمال.



 

 

أعتقد أن نهاية عصر الثقافة كخدمة في عالمنا اليوم بات حقيقة واضحة وضوح الشمس من لم يرها أو يتعمد الإعتراف بذلك سيتجاوزه الزمن؛ خاصة وأن التجارب الثقافية الدولية باتت تبحث أمر الثقافة وإدارة المخاطر التي تهدد تلك الصناعة وبحث فرص تمويلها، وتحليل إدراك المخاطر في تمويل القطاعات الثقافية والإبداعية في الاقتصاد، وبناء الشركات والتعاون بين الوزارة والقطاع الخاص والمجتمع المدني وإيجاد الحلول للمشكلات التي تواجه المؤسسات أو الوزارت المعنية بالشأن الثقافي؛ وهي رؤى لابد أن نبحثها باعتبارها أولوية لكل المشاركين في الفعل والعمل الثقافي.

 

 

من بين الملاحظات التي أتوقف أمامها دائما على سبيل المثال لا الحصر الخريطة البحثية المصرية لكليات الآداب بالجامعات المصرية والتي بحثت الثقافة في مصر؛ ومخرجاتها سواء الدراسات الثقافية والتي اقتصرت على بحث أمر الثقافة في مصر ومنتجاتها من منظور متخصص ودقيق لم يتجاوز أطر النقد الأدبي أو التحليل الثقافي ، وهو ما يكشف عن فجوة معرفية كبيرة بين الخريطة البحثية للجامعات الدولية التي أنتبهت لأهمية دراسات تمويل الثقافة، والدراسات التي تناولت المنتج الثقافي من مداخل وقراءات بينية وتقاطعاتها مع مجالات أخرى مثل التكنولوجيا والإدارة والاقتصاد وغيرها؛ وكأن فريق الباحثين لم يهتموا لأمر أن الثقافة لم تعمل في معزل عن الاقتصاد في حالة من الإتكاء على نظرية رسخ لها هؤلاء بل وكرسوا لأن تكون قاعدة يحتكم إليها كل منشغل أو منتج للثقافة في مجتمعنا بإن الثقافة خدمة مدفوعة الثمن وبشكل كامل وأن الحكومة تتحمل مسؤولية ذلك أمد الدهر حتي لو على حساب الخدمة الثقافية وجودتها وتاثيرها في المجتمع والوعي الجمعي!

 

عزيزي القارئ؛ أرجو أن لا تصدر حكماً استباقياً على ما طرحته في المقال قبل أن ترى بنفسك وبالأرقام كيف أستطاع العالم أن يعظم من موارده بفعل الثقافة؛ ويكفي أن أشير هنا إلى ما حققته تطبيقات الكتب الصوتية في عام 2023 والتي باتت من أسرع القطاعات نمواً، وكيف أرتفعت إيرادتها في الولايات المتحدة بنسبة 9 %، وكيف حققت 2 مليار دولار، وكيف ارتفعت إيراداتها بما نسبته 24% خلال الفترة نفسها في بريطانيا.

لم أستعرض أمثلة أخرى دولية؛ وسيقتصر حديثنا على حالة مجتمعنا المصري في الجزء المتبقى من المقال؛ حيث يقود حراكه أكثر من 60% من الشباب، منهم 40 مليون تقريباً أطفال تحت سن الـ18؛ يستهلكون ليلاً ونهاراً المنتجات الثقافية والإبداعية رقمياً ؛ حيث اشتراكات تطبيقات الكتب الصوتية، واستهلاك البودكاست، وتحميل وشراء الكتب بصيغة البي دي إف، ومتابعة ملخصات الكتب والأعمال الأدبية التي يقدمها المؤثرين وصناع المحتوى والتيك توكر والبوكتور، وقضاء الساعات في لعبهم الألعاب الإلكترونية المجانية والمدفوعة، ومتابعة مقاطع الفيديو لعشرات بل المئات من رواد الأعمال، وهو استهلاك يتجاوز الملايين من الجنيهات سنوياً؛ سواء على اشتراكاتهم في خدمات الإنترنت، أو في باقات تطبيقات الكتب الصوتية، أوعلى الألعاب الإلكترونية والتي باتت عنصراً مهماً فى معادلة الصناعات الإبداعية.

 

 

ويكفي أن اشير إلى أن أبرز ما تستورده مصر سنوياً يتمثل في الوسائط الرقمية ومنها الألعاب الإلكترونية بحسب وزارة التخطيط، في الوقت نفسه لم يقتصر أمر الفئات الشباب والأطفال والمراهقين في مصر على استهلاك كل ما ذكرناه من منتجات الثقافية وصناعات إبداعية بل يتجاوز الأمر لكونهم اصبحوا فاعلين ورواد أعمال منتجين للمحتوى الثقافي، فمنهم من يعمل في التعليق الصوتي، ومنهم من يعمل مونتير، وغيرها من مجالات ريادة الأعمال حتى أصبحوا قادرين على جني الملايين من الجنيهات من الثقافة ومنتجاتها.

هنا أنا أنظر عزيزي القارى للثقافة ومنتجاتها والصناعات الإبداعية من منظور بيني.. منظور لا يقوم على رؤية الثقافة بمعناها الضيق الذي أصلت له الدراسات الأكاديمية والأعمال الثقافية المصرية وإختزالها في كون الثقافة عبارة عن كتاب أو رواية أو مكتبة تبيع الكتب؛ بل من منظور أوسع يجمع بين التأثير المجتمعي للثقافة ويعزز من حضورها وبقوة ولكن من خلال تعظيم أصول وزارة الثقافة أوالمؤسسات العاملة في قطاع الثقافة، وتطوير مدخلاتها، وتنويع عمليات تشغيلها حتى نضمن جودة مخرجاتها سواء على مستوى المنتجات الثقافية أوالصناعات الإبداعية؛ وهو ما يتطلب تغيير نظرتنا التاريخية التي تجاوزها الزمن للثقافة؛ ابتداء من تغيير مفاهيمنا الخاصة بالعمل الثقافي ومنتجاتها وصناعاتها، بل وكل أمل أن ينتقل كل مشارك ومعني بالفعل الثقافي من تلك الخانة – خانة المشارك السلبي – إلى خانة المثقف الفاعل الذي يطرح الأفكار المبتكرة لتطوير العمل الثقافي سواء الرسمي أو الأهلي أو المجتمع المدني، حتى نستطيع تجويد المنتج الثقافي المصري ونساعد على تحقيق أثره المجتمعي ونضمن استدامته.

 

ومن ثم البدء وبشكل عاجل في وضع رؤيتنا وتصوراتنا الخاصة باستشرف مستقبل الثقافة المصرية ومنتجاتها الثقافية وصناعاتنا الإبداعية والتي تنافس وبقوة في أسواق عربية ودولية؛ ومنها صناعة الكتاب المصري الذي يأتي في مقدمة الصادرات الثقافية المصرية، والحرف التراثية المصرية المتفردة التي تنال إعجاب السائحين من كل جنسيات العالم؛ ، وأن نسرع وعلى نحو عاجل في صياغة استراتيجية مصرية خاصة بالاستثماري قطاع الثقافة المصرية وتنويع مصادر تمويلها.. استراتيجية يشارك في صياغتها كل مواطن مصري وليس كل منتج ثقافي بالمفهوم الضيق للمشاركين في الفعل الثقافي؛ وذلك بهدف تعظيم أصولنا الثقافية الرسمية وغير الرسمية وتطوير عمليات التشغيل وبالتالي ضمان جودة المنتجات الثقافية المصرية، وهو ما يساعد بشكل كبير في استعادة قوة مصر الناعمة والحفاظ وبقوة على هويتنا في حرب الهويات الشرسة التي يشهدها العالم.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز