
محمد دياب يكتب: وما أدراكم أن الثور يعلم أنني عنترة؟

فرّ عنترة بن شداد يوماً من ثور هائج، فتعجّب الناس وسألوه: "أتفرّ يا عنترة، وأنت فارس العرب ومضرب المثل في الشجاعة؟
فأجابهم بهدوء: وما أدراكم أن الثور يعلم أنني عنترة؟!
الحكاية قديمة، لكنها تصلح لكل زمان ومكان، فليس كل ميدان يستحق أن تخلع فيه سيفك، ولا كل خصم يستحق شرف المواجهة، ولا كل معركة تُخاض بالعقل والمنطق.
كثيرون يظنون أن الرد على الجاهل واجب، وأن الصمت ضعف، وأن الحِلم نوع من التخاذل. لكن الحقيقة أن الحكمة في بعض الأحيان تكون أقوى من ألف صرخة، وأن الانسحاب من مواجهة العبث هدوء نابع من وعيٍ بأن الجهل لا يُهزم بالمنطق، بل يتغذى عليه.
ويظل النقاش مع الجاهل معركة خاسرة، لأنه ببساطة لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا رأيه، ولا يعترف بخطأ أو يتراجع عن وهم فالجاهل لا يُقنع، ولا يقتنع، لا يقرأ ليسمعك، وإنما ليهاجم ما تقول، ولا يُنصت ليفهم، بل ينتظر الفرصة ليقاطعك.
"ما جادلتُ جاهلاً إلا غلبني، وما جادلتُ عاقلاً إلا غلبتُه" وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
كلمات قليلة، لكنها تختصر تجربة طويلة مع البشر. فالعاقل إذا ناقشته أنصفك، والجاهل إذا ناقشته أسقطك.. لا بالحجة، بل بالتطاول، وادّعاء الفهم، وتزييف المنطق
كم صادفنا من هؤلاء الذين يتحدثون في كل شيء، ويتصدرون كل مشهد؛ فتجده فقيهاً في الدين، خبيراً في الطب، محللاً في السياسة، ومُنظّراً في الاقتصاد!
هو "أبو العُرّيف" الذي لا يُخطئ، فإن خالفته فأنت الجاهل الحاسد الغيور، وإن وافقته، فذلك فقط لأنك اقتربت من مستواه، أو هكذا يظن.
وفي زماننا هذا، صارت ساحات الجدل أكثر من أن تُعد، لا سيما على منصات التواصل، حيث يظن كل من امتلك هاتفاً ووصلة إنترنت أنه مفكّر أو عالم أو مُصلح
فتهطل الآراء بغير علم، وتُشنّ الحروب الكلامية في كل اتجاه، والجاهل يصرخ أكثر، فيُخيَّل للبعض أنه الأذكى، بينما أصحاب الرأي المتزن ينسحبون في صمت، حفاظاً على العقل، لا خوفاً من المواجهة.
ليت الناس تدرك أن الاعتراف بالخطأ قوة لا يملكها إلا الشجعان، وأن الرجوع عن الرأي حين يتبيّن ضعفه هو فضيلة لا يقدر عليها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الكبيرة.
لكن الواقع يُظهر أن الغالبية تهوى العناد، وتضيق بالمراجعة، وتتحصن وراء غرور هشّ، لا يطيق أن تُمس كرامته بكلمة: "أنت مخطئ".
الحكمة تقتضي أن نكون ممن يُصغون بانتباه، لا ممن يُجهّزون الرد قبل أن يسمعوا الحديث. أن نتحرر من عبء "أنا أعلم من الجميع"، وأن نؤمن أن الرأي الصائب قد يكون عند غيرنا، لا عندنا.
فالجدال مع من لا يعقل يُهين الفكرة، ويهدر الحكمة، ويُسقط الهيبة فليس كل من رفع صوته يُحسن الرد، ولا كل من خالفك يستحق عناء التوضيح.
بعض المعارك نزولك إليها يُنقص قدرك، وابتعادك عنها رفعة لا يملكها إلا من عرف قدر نفسه وعند هذا الحد، يُترجم الانسحاب إلى وعيٍ ناضج، ويتحول الصمت إلى أبلغ رد.
وحين يُلِحّ السفهاء على المناظرة، لا حرج أن تمضي ساكناً، رافع الرأس، وتقول في سرك، كما قال الفارس العظيم.. "وما أدراكم أن الثور يعلم أنني عنترة؟"