
فى الطريق إلى منصة وطنية للعدالة الثقافية
«الثقافة الجماهيرية».. بين الواقع والمأمول

خالد بيومى ورانيا هلال
بعد تأسيسها فى ستينيات القرن العشرين تحت اسم “الثقافة الجماهيرية” جاء إنشاء الهيئة كأحد أقدم وأهم الكيانات الثقافية فى مصر والعالم العربى استجابة لرؤية الدولة المصرية فى تلك الحقبة بضرورة نشر الثقافة وتعميمها لتصل إلى كل فئات المجتمع، وليس فقط إلى النخب أو سكان المدن الكبرى.
بموجب القرار الجمهورى رقم 63 جاء تأسيس الهيئة فى عام 1965 لتكون الذراع التنفيذية لوزارة الثقافة فى مجال نشر الوعى والمعرفة، وتحقيق العدالة الثقافية بين جميع المواطنين، من خلال إنشاء قصور وبيوت الثقافة فى المدن والقرى والنجوع، وتقديم أنشطة فنية وأدبية وتعليمية متنوعة.

وخلال العقود التالية، لعبت “الثقافة الجماهيرية” دورًا محوريًا فى اكتشاف المواهب وتنمية الإبداع فى مختلف المحافظات، وأسهمت فى بناء جسور التواصل الثقافى بين الريف والحضر.
وفى عام 1989، صدر القرار الجمهورى رقم 430، ليتم تعديل اسم الهيئة إلى “الهيئة العامة لقصور الثقافة”، تأكيدًا على دورها المؤسسى وتوسيعًا لاختصاصاتها، مع استمرار رسالتها الأساسية فى إتاحة الثقافة للجميع.
إعادة هيكلة
على مدار سنوات طويلة ظلت الهيئة العامة لقصور الثقافة تقدم رسالتها من خلال شبكة واسعة تضم مئات القصور وبيوت الثقافة والمكتبات العامة والمراكز الفنية المنتشرة فى جميع أنحاء الجمهورية، وظلت ركيزة أساسية فى استراتيجية الدولة لتحقيق العدالة الثقافية، ولكنه وفى ظل محدودية الموارد طال التدهور العديد من المواقع ما استدعى تدخل الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة بتشكيل لجنة للتطوير أجرت مراجعة دقيقة لأوضاع قصور وبيوت الثقافة فى مختلف المحافظات خلال الأشهر الماضية، حيث تم تقييم كل موقع بشكل منفصل.

كشفت المراجعة كما جاء فى بيان للهيئة العامة لقصور الثقافة عن تدهور فى البنية التحتية والمحتوى المقدم فى عدد كبير من هذه المواقع، فبحسب البيانات، هناك 122 موقعًا ثقافيًا مؤجرًا يعمل بها 1206 موظفين، ما يمثل عبئًا ماليًا كبيرًا دون تحقيق الأهداف الثقافية المنشودة.
ولفت بيان الهيئة إلى أن التقارير تشير إلى أن الكثير من هذه المواقع لا تتجاوز مساحتها 40 إلى 60 مترًا مربعًا، وتقع غالبًا داخل عمارات سكنية أو نوادٍ غير مجهزة، ما يجعلها غير صالحة لتقديم خدمات ثقافية حقيقية أو استضافة فعاليات جماهيرية، كما تم رصد حالات لمقار ثقافية تحولت إلى مخازن أو غرف صغيرة تفتقر لأبسط التجهيزات.
وأكد البيان أن الأزمة تزداد تعقيدًا مع انتهاء عقود الإيجار لبعض المواقع، ودخولها فى نزاعات قانونية، ما يهدد بإخلائها الفورى ويضع الأنشطة والعاملين فى وضع معلق.
كما أن عددًا من هذه المواقع يفتقر لاشتراطات الحماية المدنية، ما يشكل خطرًا مباشرًا على الموظفين والزوار.
من جانب آخر، تمتلك الهيئة 140 قطعة أرض غير مستغلة كان من الممكن استخدامها لإنشاء مراكز ثقافية حديثة، بدلًا من الاعتماد على مقار مؤجرة متهالكة.
وفى ظل هذه التحديات، أوصت اللجان المختصة بسرعة تفعيل القانون رقم 10 لسنة 2022 بشأن إخلاء الأماكن السكنية المستخدمة لغير غرضها، وإجراء تقييم شامل لكل المواقع، مع خطة عاجلة لحصر المكتبات والمقتنيات وحمايتها، والنظر فى مشروع وطني لإعادة تأهيل البنية الثقافية وتوزيع الموارد بعدالة تضمن وصول الثقافة إلى جميع المواطنين بأمان وجودة واستدامة.

وفى ضوء هذه النتائج، أعلنت وزارة الثقافة أنه يجرى العمل حاليًا على إعادة هيكلة المنظومة الثقافية بالكامل، مع البحث عن بدائل مناسبة فى مواقع أكثر اتساعًا وقربًا من الجمهور، بما يضمن استيعاب أكبر عدد ممكن من الرواد وتقديم أنشطة ثقافية فعالة، تحقيقًا لمبادئ العدالة الثقافية والتوسع فى إتاحة الخدمة.
وفى هذا الإطار أعلن وزير الثقافة أن الوزارة تعتمد على 42 مكتبة ومسرحًا متنقلًا كمقرات لأنشطتها فى القرى والنجوع، ما يمنح مرونة أكبر فى الوصول إلى المناطق الأكثر احتياجًا، ويضمن استمرارية النشاط الثقافىk وتعتزم الوزارة زيادة عدد هذه المقرات المتنقلة إلى 100 خلال الفترة المقبلة، بما يعزز قدرتها على تغطية نطاق جغرافى أوسع وتحقيق العدالة الثقافية بشكل أكثر فاعلية.
وسيتم الاستفادة من خبرات العاملين فى البيوت الثقافية التي ستُغلق أو يُعاد النظر فى أوضاعها، من خلال إعادة توزيعهم على مواقع ثقافية قريبة من أماكن إقامتهم، حفاظًا على الكفاءات وضمان عدم التأثير السلبى على العمالة القائمة.
تحديث شامل ورقمنة
يشير بيان وزارة الثقافة إلى أنها تسعى ضمن رؤية استراتيجية تواكب متطلبات العصر الرقمي إلى تفعيل دور الهيئة العامة لقصور الثقافة الثقافى فى كل الأقاليم من خلال إجراءات تهدف لتعميق الأثر الثقافى وتقديم خدمات نوعية، بعيدًا عن الاعتماد على مكتبات مؤجرة صغيرة أو شراكات غير كافية مع جهات أخرى، حيث تعمل على تطوير بنيتها التحتية، وتوسيع خدماتها عبر المسارح والمكتبات المتنقلة، وإطلاق تطبيقات إلكترونية تتيح الوصول إلى المحتوى الثقافى لأقصى بقعة فى مصر.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، أوصت لجنة التطوير باستحداث بدائل فعالة مثل “المسرح المتنقل”، الذي يقدم خدمات ثقافية نوعية فى القرى، وقد تم بالفعل إدخال 14 مسرحًا متنقلًا للخدمة، بينها 8 خلال هذا العام، موزعة على مختلف الأقاليم الثقافية. كما يجرى التوسع فى استخدام المكتبات المتنقلة المزودة بأنشطة فنية وثقافية للوصول إلى أكبر عدد من المناطق.
وفى المقابل، سيتم الإبقاء على بيوت الثقافة والمكتبات التي تضم أندية أدب وفرقًا فنية وتؤدى دورها بفاعلية فى مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة، مع تفعيلها وتزويدها بكل الدعم اللازم. وسيتم تحديد هذه المواقع من قبل مديرى الفروع ورؤساء الأقاليم، لضمان تقديم خدمات ثقافية تليق بالمواطن المصري.

وتتضمن الخطط المستقبلية للهيئة إنشاء بيوت ثقافة بديلة للمواقع المؤجرة، بالتعاون مع المحافظات، وإطلاق تطبيقات إلكترونية جديدة تتيح الوصول إلى الخدمات الثقافية فى جميع أنحاء الجمهورية، مثل تطبيق “توت” الذي يوفر مجلّات وكتب الأطفال مجانًا.
«النواب» يستجوب
بعد إعلان وزارة الثقافة إغلاق عدد من بيوت الثقافة المؤجرة أو التي لا تقدم خدمات ثقافية بالشكل المطلوب منها، تقدمت النائبة ضحى عاصى بطلب استجواب من خلال لجنة الثقافة بمجلس النواب عبّرت فيه عن رفضها للقرار واعتبرته تراجعًا عن الدور التنويرى للدولة، وإضعافًا لأدوات بناء الوعى الجمعى، خاصة فى القرى والمناطق المهمشة، وجاء فى بيانها “بيوت الثقافة ليست أبنية خاسرة بل مساحات مقاومة للجهل والتهميش، وإن تقييم دورها لا يجوز بمنطق الربح والخسارة المالية فقط، هذا المنطق يعكس أزمة أعمق فى فهم الثقافة بوصفها خدمة عامة”.
واعتبرت “عاصى” أن النتيجة الفعلية ستكون تراجعًا فى التغطية الجغرافية والثقافية، وتقليصًا للدور الثقافى بصرف النظر عن النوايا أو الخطابات. وما يُقدّم على أنه “إعادة تنظيم” يبدو أقرب إلى” انكماش”.
افتتاحات مرتقبة
بدوره أكد الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، أن الدولة تولى اهتمامًا كبيرًا بتطوير البنية التحتية للمنشآت الثقافية، انطلاقًا من إيمانها بالدور المحورى لقصور الثقافة فى بناء الوعى المجتمعى وتشكيل شخصية المواطن القادر على الإبداع والمشاركة فى التنمية.
وأشار إلى أن التوسع فى إنشاء وتحديث قصور الثقافة يمثل ركيزة أساسية فى استراتيجية الوزارة لتحقيق العدالة الثقافية والوصول بالخدمات إلى مختلف الفئات والمناطق، مع دعم الهوية الوطنية وتمكين الشباب والمواهب فى شتى المجالات.
وأوضح الوزير أن الخطة الحالية تشمل الاستمرار فى تطوير وتجديد عدد من المواقع القائمة، مع التركيز على تهيئة بيئة محفزة وآمنة تُمكّن الجمهور من ممارسة الأنشطة الثقافية والفنية بجودة عالية، إلى جانب رفع كفاءة الكوادر العاملة وتوسيع الشراكات المجتمعية.
وأكد وزير الثقافة أن الوزارة تستعد لافتتاح ثلاثة مواقع ثقافية جديدة خلال الأيام المقبلة، قصر ثقافة أبو سمبل بأسوان، بيت ثقافة أخميم بسوهاج، وقصر ثقافة الطفل بجاردن سيتى بالقاهرة، بالإضافة إلى مواقع أخرى قيد الافتتاح قريبًا، مثل قصر ثقافة أبو قرقاص بالمنيا، بيت ثقافة قاطية وقصر ثقافة نخل بشمال سيناء، وقصر ثقافة المحلة بالغربية، وقصر ثقافة حلوان بالقاهرة.
وتتسم هذه المواقع الجديدة بتصميمات حديثة ومساحات واسعة تواكب الاحتياجات المجتمعية، وتضم مرافق متكاملة تشمل مسارح، قاعات للفنون التشكيلية، مكتبات عامة، ونوادى للآداب والتكنولوجيا، بالإضافة إلى مساحات مخصصة للطفل والمرأة والحرف اليدوية، بما يعزز من دورها كمراكز إشعاع ثقافى وتنموى فى مختلف المحافظات.
بهذه الخطوات المتكاملة، تمضى وزارة الثقافة نحو بناء منظومة ثقافية حديثة ومستدامة، تضمن وصول الخدمات الثقافية إلى جميع أبناء الوطن، وتدعم الهوية الوطنية وتواكب تطلعات المجتمع المصري فى ظل التحولات الرقمية والتحديات الراهنة.