عاجل
الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

بيوت قبائل الباتامبا الحصينة: "الهندسة بين الخوف والهوية" 

في مجتمعات أفريقيا جنوب الصحراء، لا يُنظر إلى المسكن بوصفه كيانًا ماديًا فقط، بل ككائن حي يحمل روح الجماعة وثقافتها. وهذا يبدو جليًا في العمارة التقليدية لقبائل الباتامبا في شمال توغو وبنين، التي شيّدت بيوتًا حصينة بأسطح مخروطية، تُجسد رؤية وجودية للعالم تقوم على التداخل بين الإنسان، الطبيعة، والأسطورة. فهذه البيوت ليست فقط مأوى، بل هي نص معماري ينبض بالخوف، الانتماء، والتاريخ.



يُذكر الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان بأن "البيت هو أول كون للإنسان"، وهذه المقولة تنطبق تمامًا على منازل الباتامبا؛ فهي ليست فقط حماية من الخارج، بل تعبير عن الداخل الجمعي، المتوجّس من الطبيعة، العدو، وحتى الأرواح.

تعود جذور هذه العمارة إلى قرون مضت، في زمنٍ كانت فيه قرى الباتامبا تتعرّض باستمرار لهجمات من القبائل المجاورة أو الحملات العسكرية في حقب تجارة الرقيق والهيمنة الاستعمارية. في هذا السياق، نشأت الحاجة إلى عمارة دفاعية، فكانت البيوت الحصينة التي تُشبه القلاع الصغيرة. تُبنى الجدران من الطين المدكوك بسمك كبير، وتُغلّف بأسقف مخروطية مصنوعة من القش المرتب بإتقان، وقد تكون متعددة الطوابق.

الوظيفة الدفاعية ليست مصادفة، بل هي نتاج بيئة عسكرية–اجتماعية أنتجت ما يُشبه "الهندسة الأمنية"، حيث تُبنى البيوت بجوار بعضها البعض على هيئة حلقات مغلقة، وتُجهز بنوافذ صغيرة للرصد، وأبواب منخفضة تتطلب الانحناء للدخول، ما يعكس تصورًا عن "الآخر" باعتباره تهديدًا.

هذه الخصائص تجعل من المسكن عند الباتامبا أشبه بحصن يعيش فيه الإنسان، ويدافع من خلاله عن حياته، أسرته، وهويته. ومع ذلك، فإن هذه الحصانة المعمارية لا تُلغي البُعد الجمالي والرمزي للمكان. تحمل هذه البيوت دلالات رمزية عميقة، فهي غالبًا ما تُزيّن بزخارف تحاكي الحيوانات أو الأرواح الحارسة، ويُعتقد أن شكل السقف المخروطي يرمز إلى الصعود نحو السماء أو الروح العليا. وتُصمم بعض البيوت لتُحاكي "الأنثى الحامية"، حيث تشكل الأبراج الجانبية ما يشبه الثديين، كرمز للخصوبة والرعاية. كما تحتوي المنازل على أضرحة صغيرة تُخصص لأرواح الأجداد، مما يجعل المسكن مجالًا لـ "الحياة والموت" في آنٍ واحد.

هذا التداخل بين الوظيفي والروحي يُعبّر عن فلسفة معمارية أفريقية جوهرها أن البيت ليس "مُلكًا شخصيًا"، بل "كيان جمعي مقدس". فالمسكن يُبنى بروح جماعية، وتُورّث هندسته من جيل إلى آخر شفهيًا، ضمن تراتبية عمرية تحكمها الأعراف.

تُعدّ منازل الباتامبا مثالاً على ما يسميه الباحث بول أوليفر بـ"العمارة الفلكلورية الحية"؛ فهي ليست تراثًا جامدًا بل ممارسة يومية تشكل سجلًا لهوية الجماعة. وقد نجت هذه العمارة من الاندثار بفضل مرونتها البيئية وقدرتها على الصمود في وجه الزمن، لكنها اليوم تواجه خطر التآكل الثقافي بفعل التمدن والهجرة والضغط التنموي.

في عام 2004، صنّفت منظمة اليونسكو بعض قرى الباتامبا ضمن قائمة التراث العالمي، محاولة بذلك الحفاظ على ما تبقى من هذا الأثر الحي. لكن السؤال يبقى: هل يكفي التصنيف لحماية "فلسفة البناء" التي تجسّدها هذه البيوت، أم أن العمارة التقليدية تحتاج إلى إعادة تفعيلها داخل سياقها الأصلي، لا فقط حفظها كتحفة؟

إن بيوت الباتامبا ليست فقط أبنية تقليدية، بل "مانيفستو ثقافي" صامت، يقاوم عبر الطين والقش النسيان والاختراق. إنها تقول ما لا تستطيع الجدران الخرسانية قوله: أن المسكن ليس فقط ما يأوي الجسد، بل ما يحفظ الذاكرة، والهوية، والكرامة. ففي هندستها نقرأ كيف فهم الإنسان الأفريقي معنى الأمان، وكيف ترجم خوفه إلى شكل، وإيمانه إلى بنية.

وتبقى دائماً وأبدأ حكايات أفريقية تحمل بين طياتها الهوية والشخصية والتعبير عن الذات وتعكس الفكر والثقافات.

 

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية  

 

إبراهيم محمد مرجونة
إبراهيم محمد مرجونة

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز