منال رضوان تكتب: البطل المأساوي وفق النموذج الأرسطي.. دراسة مقاربة في مسلسل أرابيسك
مقدمة:
مصطلح هارماتيا (Hamartia) في النموذج الأرسطي: هو مصطلح يشير إلى الخطأ التراجيدي، أو العيب المأساوي في شخصية البطل، الذي يجعل من السقوط نتيجة حتمية، استخدم أرسطو ذلك المصطلح في كتابه "فن الشعر" لوصف النقطة الجوهرية في التراجيديا؛ حيث يكون البطل شخصًا نبيلًا، لكنه يرتكب خطأً يؤدي إلى نهايته المأساوية، ويعد "أوديب'' نموذجًا مهمًا لذلك البطل المأساوي، تناول أرسطو في كتابه السابق الإشارة إليه، ذلك العمل الأثيني ل..سوفوكليس، المقدم للمرة عام ٤٢٩ ق.م. هنا نجد الخطأ أو العيب التراجيدي تمثل في الجهل بالهوية الحقيقية، والاعتقاد القاصر بتحدي النبوءة؛ لتكون النتيجة وقوعه في براثن الخطيئة، وقتل والده ثم ما تلا ذلك من وقائع نعلمها، في حين أننا نجد العيب التراجيدي في "ماكبث'' ل.. ''وليام شيكسبير" (١٥٦٤ - ١٦١٦م) تمثل في التأثر بنبوءات الساحرات والطموح الجامح؛ لتكون النتيجة التحول العاصف من قائد نبيل إلى طاغية يبغضه الجميع، كذا في "هاملت" للمؤلف ذاته؛ فإن العيب التراجيدي المتمثل في القلق المفرط، والظروف المحيطة، وأفعال الشخصيات المصاحبة، أدى إلى نتيجة مأساوية؛ تمثلت في نهاية البطل وموت من حوله. كذا الحديث عن چي جاتسيبي في جاتسيبي العظيم ل.. فيتزجيرالد، أو مأساة د. فاوست العمل الأشهر ل.. كريستوفر مارلو وغير ذلك من نماذج يزخر الأدب الغربي بها.في حين أن ال.. "هارماتيا" العربية قد لا تكون حاضرة بالقوة ذاتها؛ غير أننا لا يمكن إلا وأن نقر بوجودها في أعمال كلاسيكية وحديثة بشكل يفي بغرض الحديث ويفيض، مع ملاحظة لابد من ذكرها، وهي تطور نموذج البطل المأساوي في الأدب العربي؛ ففي حين أنه في الأدب الكلاسيكي يكون ضحية لعامل خارجي؛ كعنترة بن شداد أو الحلاج أو قيس بن الملوح، فيؤدي ذلك العامل الخارجي إلى صراعه أو هلاكه أو أزمته النفسية، لكن ذلك المفهوم تطور تطورًا واضحًا ليأخذ أشكالًا متنوعة؛ حيث أصبح العيب التراجيدي للبطل مرتبطًا بالصراعات الاجتماعية، والسياسية، والنفسية. -على سبيل المثال- نجد سعيد مهران في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ؛ حيث يتمثل العيب التراجيدي هنا في الوهم بالعدالة المطلقة، ثم الرغبة العمياء في الانتقام نتيجة الإخفاق، فيجد نفسه مطاردًا من الجميع، ليسقط قتيلًا في النهاية، بينما في رواية الخرز الملون لمحمد سلماوي نجد العيب التراجيدي لنسرين تمثل في الاستسلام ووقوعها فريسة للاكتئاب والانسحاب من الحياة الفاعلة؛ مما دفعها للانتحار. ولا يمكننا إنهاء ذلك المبحث من دون ذكر "الطريق" والعودة مرة أخرى إلى أدب نجيب محفوظ؛ صابر الرحيمي الذي نزل إلى مدينة الإسكندرية في محاكاة لنزول آدم إلى الأرض، أجاد التعبير عنها المخرج حسام الدين مصطفى عندما قدمت الرواية إلى السينما عام (١٩٦٤)،مثل صابر نموذجًا صريحًا للبطل المأساوي؛ فالبحث عن الحق المطلق وخوض غمار رحلة العودة إلى الأصل خالطته الخطايا من سرقة وزنا وقتل مما جعل السقوط واللعنة نتيجة حتمية.
إجمالا لما سبق، ففي الرواية العربية الحديثة، أصبحت ال..هارماتيا أكثر تعقيدًا؛ حيث لم تعد مجرد أخطاء أخلاقية أو عيوب شخصية، بل تداخلت مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ مما يجعل سقوط البطل مرتبطًا بالتحولات في بنية المجتمع نفسه، وليس بقراراته الفردية فقط.. والجدير بالذكر أن بعض الأعمال الأدبية للنماذج السابق ذكرها، قد حولت إلى أعمال فنية مسرحية أو سينمائية كما صنع البعض الآخر للمسرح خصيصًا.ومع تطور فنون وأساليب العرض ظهرت الدراما التلفزيونية لتحتل مساحة تضاءلت إلى جانبها الوسائل الأخرى بمرور الوقت؛ فلا يمكننا إلا الإقرار بهذا الواقع حتى وإن تمنينا عودة العصور الذهبية للمسرح أو السينما.
وجد الكتاب في السينما أو الدراما التلفزيونية متنفسًا يتيح إليهم عرض أفكارهم ورؤاهم ومناقشتها عبر حلقات مسلسلة قد تمتد إلى عشرات الحلقات أو المئات في بعض الأحيان كما حدث في مسلسلات الأجزاء (ليالي الحلمية). وباستعراض بعض الأمثلة لنموذج البطل المأساوي، التي عرضت كدراما تلفزيونية، نجد "أديب" عن قصة حملت العنوان ذاته لعميد الأدب العربي طه حسين، والتي عرضت تلفزيونيا في عام ١٩٨٢، لكننا يمكننا الوقوف كذلك إزاء النموذج الأعمق لحالة فلسفية شديدة التعقيد حملت ميكانيزمية من الإسقاط صاغها الكاتب والسيناريست أسامة أنور عكاشة (١٩٤١ - ٢٠١٠) في مسلسل ''أرابيسك" الذي عرض للمرة الأولى في العام ١٩٩٤م وهو العمل الذي نتناوله في السطور القادمة. نموذج البطل المأساوي في مسلسل "أرابيسك":قراءة أرسطيةفي ضوء مفهوم"الهارماتيا " يمثل مسلسل أرابيسك – الذي صاغه الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة برؤية درامية محمّلة بالأسئلة الوجودية والاجتماعية – نموذجًا فريدًا لمقاربة سردية تتقاطع فيها جماليات الدراما التلفزيونية مع أبنية التراجيديا الكلاسيكية، فشخصية "حسن فتح الله النعماني" تمثل تجسيدًا معاصرًا للبطل المأساوي وفق التصور الأرسطي؛ حيث تتوافر فيه سمات النبل والجسارة، ويقع في نهاية المطاف ضحية لخطأ جوهري في التقدير – وهو ما يعرف بـ"الهارماتيا" (Hamartia) – يقوده إلى تحلل مصيره وانهيار عالمه. ينتمي حسن النعماني إلى طينة من الشخصيات التي تكتسب وجاهتها الرمزية من كونها تنتمي إلى تراث مهني وفني عريق،يجمع بين الحرفية الجماليةوالهوية الثقافية المتجذرة؛ فهو الوريث الشرعي لورشة الأرابيسك، وابن البيئة الشعبية ذات الحس الإبداعي والوجداني، كما أنه بطل حرب حقيقي، حاز وسام "نجمة سيناء" عن بطولته في حرب أكتوبر، غير أن هذا المجد، بدلًا من أن يكون منطلقًا للبناء، يتحول إلى مرآة يُسقط فيها ذاته المترددة، وعالمه المنكسر. تتجلى الهارماتيا هنا في لحظة وجودية مفصلية؛ لحظة يقرر فيها حسن الانكفاء على الذات، والارتهان لزمن بطولي غابر، ليظل غير قادر على التفاعل الخلاق مع تحولات ما بعد الحرب، بما فيها من صدمة حضارية، وتبدل في القيم، وتآكل في منظومة الوعي الجمعي، لقد آثر النعماني الهروب إلى الورشة والمخدر، بدلًا من خوض معركة إعادة البناء أو المواجهة مع قوى السوق والتغريب التي تمثلها شخصيات مثل "رمضان الخضري" أو "عتوقة". تسير الحبكة تصاعديًا لتُظهر انحلال البطل في محيط لا يعترف بالقيمة أو الأصالة، فيما تتكثف الشخصيات من حوله كرموز لفقدان البوصلة الاجتماعية: "برهان صدقي" العالم المتفرج، إلى "أنوار" التي تمثل طيف الحلم الممكن، لكنها تظل دومًا على تخوم التحقق، وحين يحاول حسن في النهاية تصحيح مساره عبر هدم الفيلا – الرمز الطبقي المتكلس – فإن فعله يأتي متأخرًا، ضمن سياق مأساوي لا يتيح فكاكًا من السقوط. تكمن عبقرية عكاشة في قدرته على إنتاج تراجيديا حديثة دون الانسياق إلى الميلودراما؛ حيث تتشكل المأساة لا من الشر، بل من الخطأ القاتل الذي يرتكبه إنسان نبيل، فتتحقق بذلك شروط التراجيديا كما صاغها أرسطو: إثارة الشفقة والخوف، وصولًا إلى التطهر. إن أرابيسك ليس فقط أحد أهم المسلسلات في تاريخ الدراما العربية، بل هو أيضًا نص مفتوح لتأمل فلسفة الفقد، وتحولات الهوية، وتدهور المدينة، واغتراب الإنسان في وطنه.
ولعل "الهارماتيا" التي أصابت حسن النعماني ليست سوى مرآة مكبرة لهارماتيا مجتمع بأسره، ظل عالقًا بين مجد ماضٍ وعطب حاضر.لتدور فكرة العمل (الدرامي) حول حسن فتح الله النعماني أسطى الأرابيسك صاحب ورشة في إحدى الحارات المصرية الذي يعاني التخبط والانتكاسات المتكررة فيلجأ إلى المخدرات وصحبة السوء؛ مما يؤدي إلى ضياع كل شيء (زوجته، ابنه، علاقته بأخيه، الأثر الذي ورثه عن جده 'الكرسي، الورشة، حبه لأنوار...)
بدأ العمل باستخدام ميكانيزمية الاسترجاع أو ما يعرف دراميًا ب.. (Flash Back) حول اقتياد الغزو العثماني لمئات الصناع والحرفيين إلى اسطنبول مما أدى لبداية الخطر الحقيقي الذي شكله الدخيل على الهوية الأصيلة لأبناء المجتمع.. وعبر قفزة درامية نجد أنفسنا أمام حارة من حارات قاهرة المعز أو مناطق (الجمالية وباب النصر...) والتي اشتهرت بالحرف والصناعات اليدوية، حيث يبدأ الإسقاط منذ الحلقة الأولى متمثلًا في ذلك الانهيار الذي أصاب المجند حسن النعماني لتظهر مصاحبة الأنماط المتطفلة على المهن الأصيلة ويمثل رمضان الخضري زوج الأخت الشر النسبي بينما عتوقة تاجر البزار المتلاعب يعد نموذجًا للشر المطلق لكنهما يختاران الأموال التي تهبط عليهما بتكسب غير مشروع في أغلب الأحوال، ومحاولة رمضان السطو على الورشة التي مثلت الأصالة والتمسك بالهوية، ومحاولة عتوقة سرقة الكرسي.
إن استسلام حسن وفقدانه الشعور بأهمية ما يفعل يجعله يختلق الأعذار، مبالغا في ما يقدم، في حين أن حسني الذي امتلك العلم والصنعة يواجه المصير ذاته نظرًا لقلة خبرته، ليتفجر الصراع الدرامي في جانب آخر وهو مجتمع (فيلا برهان صدقي) العالم الذي يستغرب الأوضاع جميعها، لكنه أراد البطولة في لحظة شجاعة مباغتة، وأرادت زوجته تصميم قاعات كرتونية سهلة الفك والتركيب لحقب زمنية متعاقبة مرت على مصر في استعراض يبدو واضحًا.
ينتقل الصراع مرة أخرى إلى الحارة والتي تمثل هنا مصر الحقيقية عبر سلامة النعماني الشخصية الوهمية التي يتنكر برهان فيها؛ بغية الهروب من محاولة اغتياله، هنا يبدأ حسن في استشعار الخطر على أبناء حارته ومن ثم على بلده، فيحاول تدارك ما مضى وسط إخفاقات متتالية؛ فمن الصعب إصلاح أخطاء تراكمت لسنوات بين عشية وضحاها، وفجأة يقرر حسن هدم تلك الفيلا، (مثلت هنا العشوائية والهوية غير الحقيقية) ليبدأ ما عبر عنه وفق نظرته المحدودة.. "البناء على نظافة". يتضح فكر المؤلف والمعروف عنه موقفه مما حدث بعد انتصار أكتوبر العظيم، ويستخدم حيلًا متنوعة في سبيل ذلك، أهمها اختيار الأسماء فنجد الخير والنقاء ومحاولة تغيير الواقع ممثلًا في اشتقاقات من صفات البناء والعدالة والضوء والشروق في شخصيات: ( عمارة - عدولة - أنوار - شقشق – صبحية)، بينما يظهر التأرجح بين عدة صفات بشرية منها: التواكل والبحث عن المكسب السريع والانتهازية والطموح والرضا السلبي بالواقع، أو الشر المتفاوت، وجميعها تحتاج إلى إنقاذ سريع أو علاج ناجز أو عقاب رادع: ( مصطفى بطاطا - شلة القهوة - رزق العجلاتي - زقزوق - عتوقة - رمضان الخضري - سامبو - شكرية خادمة توحيدة - سعاد - فريال - طليقة حسن)، وشخصيات حدية مثلت العلم المطلق (برهان صدقي) والذي يتضح من اسمه إيمانه بالعلم مع التعالي الشديد الذي يصل حد الصلف، حتى يظهر الوجه القبيح للعلم ممثلا في العراب الغربي (الذي قام بدوره الممثل اللبناني آلان زغبي)؛ ليذكرنا بحنش عرفة في أولاد حارتنا لنجيب محفوظ.
يقابل برهان شخصية تحمل الوجه ذاته وهي المستشار "علم الدين" الذي يبدو كما اسمه أكثر إتزانا وهدوءًا في معالجة الأمور، ويظهر الأستاذ وفائي وهو ليس لصًا للآثار؛ إذ أنه حاول الاحتفاظ بالكرسي الذي كان ضائعًا بالفعل، فالتقطه من سرادق عزاء في مأتم، وفي هذا إسقاط لا يحتاج إلى إسهاب في الإيضاح، وعندما تبين له أن الكرسي سيعود إلى هيئة الآثار تركه مقرًا بخطأ موقفه، كما يتضح، فالعمل مليء بالإسقاط المقصود لعثرات أصابت الشخصية المصرية التي اجتمعت عليها المؤامرات الخارجية ونمط الاستهلاك غير المبرر والتطرف، فأدى إلى تحول البعض إلى نموذج حسن النعماني.
ختامًا.. اتفقنا أو اختلفنا مع النمط السلوكي الذي مثله حسن النعماني، لكن لا يمكننا بحال إخضاع الشخصيات الدرامية أو الأعمال الأدبية إلى ما يسمى بـ(المحاكمة) لتعارض ذلك مع أبسط قواعد النقد الحديث الذي يطالبنا بتكوين قراءة خاصة لتلك الأعمال، لا محاكمتها بحال من الأحوال.
منال رضوان أديبة وناقدة مصرية: عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر
















