
عباقرة الحضارة الإسلامية.. الحلقة 18
أحمد الجمال يكتب: أبو عبد اللّٰه البتاني.. رائد علوم الرياضيات والفلك

"من أهم الدروس المستفادة من دراسة التاريخ وفي تعلم القدوات والعظماء هو معنى زراعة الأمل والثقة بالنفس"
مولده ونشأته:
ولد أبو عبد اللّٰه البتاني حوالي عام (240هـ-854م) في «بتان» بإقليم حران. وينسب إقليم حران إلى حران التي تقع في شمال غرب الجزيرة الفراتية العليا بين مدينتي الرقة والرها. وكانت أسرته تدرّس قديمًا الديانة الصابئية، ثم أسلمت، ومنها جاءت نسبة «الصابئي». أمضى البتاني معظم حياته يرصد الأجرام السماوية بمرصد الرقة أو مرصد البتاني من عام (264هـ-878م) حتى عام (306هـ -918م).
مؤلفاته وإنجازاته العلمية:
كان البتاني مغرماً بالتصنيف وتأليف الكتب، حيث ألف عددًا كبيرًا من المؤلفات، تضمنت أرصاده الدقيقة ومقارناته بين التقاويم المعروفة لدى الأمم المختلفة (الهجري، الفارسي، الميلادي، القبطي)، وأوصافه للآلات المستخدمة في عمليات الأرصاد الفلكية وطرق صناعتها. ومن أهم مؤلفات البتاني: كتاب معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك، ورسالة تحقيق أقدار الاتصالات، وشرح المقالات الأربع لبطليموس، وكتاب تعديل الكواكب، وكتب ورسائل في علم الجغرافيا، وكتاب «الزيج الصابئ» أو «اَلزِّيجْ اَلصَّابِئَ، فِي حِسَابِ اَلنُّجُومِ وَفَلَكِ اَلْبُرُوجِ وَمَوَاضِعِ اَلْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا»، هو أهم كتب البتاني العلمية، وضعه سنة (287هـ-900م) على أساس أرصاد قام بها في الرقة وأنطاكية في العام نفسه، متخذًا «زيج الممتحن» ليحيى بن منصور مرجعًا له. ويعد «الزيج الصابئ» أهم وأصح الأزياج المعروفة التي أثمرتها حضارة الصابئة المندائيين، وسمي بـ«الزيج الصابئ» نظرًا لانتماء البتاني إلى طائفة صابئة حران. ويشتمل «الزيج الصابئ» على مقدمة، وسبعة وخمسين فصلًا، ضمّنها البتاني الكثير من أرصاده الفلكية وأفكاره ونظرياته في علم الفلك. وقد ترجم الكتاب إلى اللاتينية أكثر من مرة في القرن الثاني عشر، كما أمر «الفونسو العاشر» في «قشتالة» بنقله إلى الإسبانية، وأطلع عليه كبار الفلكيين الأوربيين ومنهم «كوبرنيكوس» في القرن السادس عشر الميلادي. وفي عام (1899م) طبع الزيح الصابئ بـ«روما»، بعد أن حققه «كارلو نلينو» عن النسخة المحفوظة بمكتبة الاسكوريال بإسبانيا. ويضم الكتاب أكثر من ستين موضوعًا أهمها: تقسيم دائرة الفلك وضرب الأجزاء بعضها في بعض وتجذيرها وقسمتها بعضها على بعض، معرفة أقدار أوتار أجزاء الدائرة، مقدار ميل فلك البروج عن فلك معدل النهار وتجزئة هذا الميل، معرفة أقدار ما يطلع من فلك معدل النهار، معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك، معرفة أوقات تحاويل السنين الكائنة عند عودة الشمس إلى الموضع الذي كانت فيه أصلًا، معرفة حركات سائر الكواكب بالرصد ورسم مواضع ما يحتاج إليه منها في الجداول في الطول والعرض. عرف البتاني قانون تناسب الجيوب، واستخدم معادلات المثلثات الكرية الأساسية.
كما أدخل اصطلاح جيب التمام، واستخدم الخطوط المماسة للأقواس، واستعان بها في حساب الأرباع الشمسية، وأطلق عليها اسم «الظل الممدود» الذي يعرف باسم «خط التماس».
جدير بالذكر أنه أسهم في مجال علم الجبر وحساب المثلثات وإليه ينسب الفضل في ابتكار مقاليب النسب المثلثية الأساسية (قا، قتا، ظتا).
يقال أيضا أن البتاني كان من أوائل العلماء الذين اكتشفوا كروية الأرض، وأن كل كوكب يسير في مسار إهليلجي. الأستاذ الزركلي في كتابه الأعلام (لم يعلم أحداً في الإسلام بلغ مبلغ بن جابر – البتاني – في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها)، وقال أيضاً: (أول من كشف السمت (azimuth) والنظير (nadir) وحدد نقطتهما في السماء). أول من اكتشف حركة الأوج الشمسي وتقدم المدار الشمسي وانحرافه. يقول «نيلنو» (إن له رصودا جليلة للكسوف والخسوف اعتمد عليها دنتورن سنة 1749 م في تحديد تسارع القمر في حركته خلال قرن من الزمان). يقول لالند الفرنسي: (البتاني أحد الفلكيين العشرين الأئمة الذين ظهروا في العالم كله).
تعلقت دراساته بمفاهيم الجيب فهو أول من وضع مفاهيم جيب التمام والظل في علم حساب المثلثات. جمع ملاحظاته في الفلك في كتابه "الزيج الصابئ"، في هذا الكتاب مقدمة مميزة للبتاني يوجّه فيها الأجيال القادمة على متابعة عمله وتحسينه، حيث وصف الكرة السماوية وتقسيمها بالإضافة إلى وجود فهرس للنجوم، وشرح لنظريته المتعلقة بحركة الشمس والكواكب. قدّم البتاني تفسيرًا وشروحات خاصة بأطوار القمر. أجرى العديد من الأرصاد الدقيقة لظاهرتي الكسوف والخسوف، وضّح من خلاله كيفية حدوث الكسوف الحلقي والجزئي ومواقع كل من الشمس والأرض والقمر في هذه الحالات.
وفاته:
يشير الزركلي في كتابه الاعلام إلى أن البتاني ارتحل مع بعض أهل الرقة إلى بغداد للشكوى في مظلمة، فلما رجع مات في طريقه بقصر الجص، قرب سامراء. وكان ذلك حوالي سنة 929م.
تكريمه:
أُنشئ لهُ تمثال في مدينة الرقة في سوريا، الا ان هذا التمثال تعرض لعملية تخريب من قبل إحدى الجماعات المسلحة في عام 2013 حيث هدم من أساسه وأسقط أرضا.