

محمد الطماوي
جودة عبد الخالق.. عاشق الوطن واللغة والعلم
في محراب العلم، حيث تتعانق الحكمة مع المعرفة، يسطع الدكتور جودة عبد الخالق كالشمس التي لا تأفل، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وصاحب البصمة التي لا تمحى في عقول وقلوب طلابه، ليس مجرد معلم، بل قامة فكرية شامخة، وأب روحي لكل من تشرف بالتتلمذ على يديه.
لم تكن محاضراته مجرد لقاءات أكاديمية، بل رحلة فكرية ممتدة، يحرص خلالها على أن يغرس في طلابه قيم الانتماء قبل أن يلقنهم النظريات الاقتصادية، يبدأ محاضرته دائمًا بتحية العلم، لا كعادة مفرغة من معناها، بل كتعبير عن حب راسخ للوطن، فيفكك رموز الألوان في رايته، يسبر أغوارها، ويعيد تشكيل وعي طلابه بمفهوم الدولة والانتماء.
أما "في مثل هذا اليوم"، فلم يكن مجرد استعراض للأحداث التاريخية، بل نافذة يطل منها الطلاب على الزمن، حيث يسرد الماضي بروح المؤرخ الشغوف، ويجعل التاريخ ينبض بالحياة، كأنهم يرونه رأي العين، في كلماته عبق الأمس وحكمة اليوم، فلا يمر حدث إلا وقد ربطه بالحاضر، ليكشف كيف أن التاريخ هو المعلم الأول.
لم تكن القضية الفلسطينية مجرد شأن عابر في محاضراته، بل كانت جرحًا نابضًا في قلبه، وهمًا لا يفارقه، حين يتحدث عن غزة، تسمع في نبراته غضب المظلوم، وصلابة المقاوم، يتناولها بعين الاقتصادي، المحلل، والمثقف الذي يدرك كيف تتشابك المصالح الدولية، فتُباع الأوطان في أسواق السياسة، لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغرس في طلابه اليقين بأن الحق لا يُمحى، وأن التاريخ لا ينسى، وأن الشعوب حين تنهض، لا تُهزم، حيث تلا قائلاً: "وللحرية الحمراء بابٌ.. بكل يدٍ مضرجة يُدقُّ".
فسألته إحدى الطالبات عن مغزاه، فوقف شامخًا، يشرح كيف أن الأمم العظيمة لا تُبنى إلا بالتضحيات، وأن حرية الشعب الفلسطيني مهرها الدم، وأن طغاة الاحتلال زائلون مهما طال ليل الظلم، في كلماته وهج العروبة، وفي روحه جذوة التمرد، فلم يكن يومًا محايدًا، بل كان دومًا في صف الشعوب، وفي خندق الحرية.
ثم ليعود بك مشددًا على حبه العميق للغة العربية، مدافعًا مستميتًا عن مفرداتها وجمالياتها، مؤمنًا بأنها ليست مجرد وسيلة تعبير، بل هوية الأمة وكنزها الثقافي، كان يرى في اللغة جسرًا يربط الماضي بالحاضر، وروحًا تنبض في الفكر والعلم، فلا يسمح بأي استهانة بها أو تهاون في إتقانها، وفي الوقت الذي يسحرك فيه ببلاغته، ينتقل بك فجأة إلى جولة قاسية في التحليل الكمي وأساليبه، حيث يتحول النقاش إلى ساحة اختبار حقيقي للعقل والمنطق، ويا ويلك لو أخطأت في معادلة، أو لم تذاكر جيدًا، أو لم تحضر بطريقتها الصحيحة! هنا، يصبح حازمًا لا يقبل أنصاف الحلول، فلا مجال عنده إلا للفهم العميق والاستعداد الكامل، وكأنك أمام قاضٍ لا يتهاون في حكمه، لكنه في الوقت ذاته معلمٌ يريد لك التفوق لا السقوط، وغايته دائمًا أن يصنع منك باحثًا حقيقيًا، يفكر قبل أن يتحدث، ويحلل قبل أن يستنتج.
جودة عبد الخالق ليس أستاذًا يُدرِّس، بل فكرة تسكن القلوب، ومنهج يُحتذى به، بدأ حياته بعصامية نادرة، تسلّق سلم المجد بعزيمة لا تلين، وبقي رغم السنين متربعًا على عرش العقول والقلوب، بكر العقل، حديد الذاكرة، شباب الروح، يثبت في كل يوم أن العمر مجرد رقم، وأن الإنسان يحيا بفكره لا بعمره.
من حظي بشرف التعلم على يديه، لم يتلقَ علمًا فقط، بل تعلم كيف يكون إنسانًا، كيف يفكر،، وكيف يضع الوطن فوق كل اعتبار، هذا الرجل ليس مجرد أستاذ اقتصاد، بل مدرسة متكاملة من الفكر والنضال والحكمة، أيقونة لن تتكرر، وعلمٌ سيظل خفاقًا في ذاكرة كل من مرّ في رحاب علمه.
وكما كان معلمًا ملهمًا في قاعات الدرس، كان أيضًا جنديًا في ساحة المسؤولية، حين حمل على عاتقه أمانة الوطن في واحدة من أصعب الفترات الاقتصادية والسياسية، حين تولى منصب وزير التموين والتجارة الداخلية، لم يكن المنصب عنده وجاهةً أو سلطة، بل واجبًا وطنيًا أداه بإخلاص ونزاهة، واضعًا مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، مسخرًا علمه وخبرته في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية وصون كرامة البسطاء، واليوم، حين يتحدث خبراء الاقتصاد، تجد أن معظمهم تلاميذ في مدرسته الفكرية، ينهلون من حكمته ورؤاه، إنه أيقونة لا تتكرر، ورمز سيظل خالدًا في ذاكرة وطن عرف فيه رجلاً أعطى بلا حدود، فاستحق أن يكون خالداً في القلوب والعقول.
إن الدكتور جودة عبد الخالق ما زال يجسد أسمى معاني الوفاء للوطن، فقد كان ولا يزال أيضًا عنوانًا للحب الصادق والارتباط النبيل، لا يزال يروي بكل فخر وحنين ذكرى اليوم الذي طلب فيه يد رفيقة دربه، اليوم الذي لم يكن مجرد لقاء، بل بداية قصة نضال من أجل الحب، فقد قاتل ليكونا معًا، مؤمنًا بأن الشراكة الحقيقية تقوم على الإخلاص والاحترام والتكافؤ، لم تكن حياته معها مجرد رحلة زوجية، بل ملحمة من المودة والتقدير، حيث كان الحب بينهما شاهدًا عليه العلم والمعرفة، فقد كانت شريكته في الفكر قبل أن تكون رفيقة حياته، ومعها أدرك أن العقل لا يكتمل إلا بالمحبة، وأن النجاح الحقيقي هو أن تجد من يسير معك على درب النضال بالحلم والعقل والقلب معًا.