

د. حسام عطا
ستبقى تسمى فلسطين.. قراءة درامية في القصف الجوي على غزة
في متابعة حرص العالم على اعتبارها أمرا اعتياديا، تابعت بكل ألم المشاهد المتوحشة غير الإنسانية للقصف الجوي الأخير على غزة. والذي بات أمرا متكررا، وهو أخطر ما يكون أن يصبح اعتيادياً وسط كل هذا الضجيـــــــــــــج. قتل دموى تعقبه احتجاجات متوالية ومقالات عديدة وجمل تطير في الهواء، مما يدخله دائرة العبث. فالفعل الدائر الآن حقا بمنطق الدراما هو فعل عبثي لأنه فعل دائري مغلق يقوم علي التكرار في القتل العنيف والاستنكار الدائم.
وإذ تبدو لي أفعال المقاومة الثقافية الآن أكثر وضوحا وتبدو لي ضرورة، أحاول استعادة التذكير بالدور المهم للثقافة والفنون في هذا الصراع التاريخي، الصراع في فلسطين والذي تحول حقا لمأساة عبثية سوداء تقترب من الكوابيس غير المعقولة والتي بتنا نراها تحــــــــدث كل يـــــــوم. والتكرار لذات الفعل الدائري هو تكرار يصنع اليأس ويمهد لقبول الأمر الواقع بالقوة. ولذلك يبقى الفن والثقافة العامل الحاسم في تبديد هذا الإعتياد بالتكرار، وفي فضح هذا الفعل العبثي الدائري. إنها الفكرة أصل كل الأفعال إنها الأفكار صانعة الحاضر والمستقبل. ولذلك فالبداية حقا ليس ما أعلنه الكيان الصهيوني عنوانا لهذه الحلقة المسلسلة الجديدة من دراما التطهير العرقي الدموية المبنيــــة على سرديات وهمية تحاول صنع بنية ومرجعية ما لكل هـــــــذا الفزع وإنكار الإنسانيـــــة، لأنها كما قال الشاعر الكبير محمود درويش: الأرض، أم البدايات أم النهايات كانت تسمــى فلسطين صارت تسمى فلسطين سيدتي: أستحق، لأنك سيدتى أستحــــــق الحيـــــــاة. القصف الإسرائيلي الذي عاد مجدداً ليستكمل حرب الإبادة الجماعية وقتل المدنيين في غزة متحديا العالم كله، هو في تحليله الواضح، وكما أسماه نتنياهو "بداية" لحرب تستهدف التفاوض تحت القصف. إنه الهدف الثابت هدف الإبادة الجماعية، هو الهدف الدائم والإختيار الرئيس للكيان الصهيوني، الذي سمح بمشاهد أخرى مفرغة داخل حرم المسجد الأقصى الشريف الذي شهد إعتداء وحشى هجمـــي جديد. وإذ يستهدف الاحتلال الإسرائيلي من هجماته الأخيرة في رمضان وقصفه الجوي بالقنابل الثقيلة للمنازل والمنشآت والأحياء السكنية في غزة إعلان نفسه منتصرا، عبر هذه الضربات العنيفة والتي بدأت فجر الثلاثاء 8 مارس الجاري 2025م، وأسفرت عن مقتل 404 مدني فلسطيني أغلبهم من الأطفال والنساء، و562 مصابا على الأقل، ثم توالت الضربات فجر الأربعاء 19 مارس الجاري 2025 ليتزايد عدد الشهداء والجرحي. وإذ أصبحت الحياة جحيماً حقا في ظل الظروف الصحية والمعيشية والتي حولت القطاع لمكان للتعذيب الوحشي بين الجوع والمرض والقتل، بل ووصل الأمر لقصف مبان للأمم المتحدة هناك، إذ تم قصف مبنى تابعا للمنظمة الدولية في دير البلـــــح. مما أسفر عن مقتل أحد العاملين الدوليين هناك وإصابة آخرين بجـراح، وإغتيال عدد من متطوعي (المطبخ العالمي)، والذين أرادوا الطعام لكل فم، والذين جاءت بهم إنسانيهم من بلدان عديدة حول العالم فعادوا لبلادهم شهداء ملائكة أبرار. وإذ يستشعر نتنياهو بكل القوة كما صرح بأنهم في إسرائيل يشعرون بقوتهم، مثمنا الدعم الأمريكي التام، يبقى العالم المتحضر مندهشا متفرجا. إنه الجحيم إذن ها هو يبدأ كما هدد الرئيس الأمريكي ترامب، وما يستوقفني حقا هنا هو تحليل لنوع القوة التي يشعرون بها. إنها قوة قتل أمام شعب أعزل، وحركة مقاومة عقدوا معها هدنة نقضوها وأخلوا بها وأطلقـــــــــوا الجحيــــــــــم مجدداً، فهل هذه قوة؟ علمتنا التجربة أن القوة المفرطة للأفراد والأمم عند استخدامها مع المدنيين العزل، تصبح هي الضعف بعينه. ولا تدرك إسرائيل بكل ميراث الكراهية أن هذا الضعف الواضح للمدنيين العزل هو قوة وصلابة، لأنهم لم ولن يغادوا أرضهم ولن يفلح أبدامعهم التهجير القســــــــري. وإن كانت إسرائيل بدعم أمريكي تام قد إختارت البديل الآخر وهو الإبادة الجماعية والقتل بلا رحمة والتطهير العرقي، فهو الإختيار الخطأ الذي سيعيدها كما كانت نقطة معزولة محاصرة. فهل يتأمل العرب والمسلمون حول العالم درس الهدنة القصير لمدة شهرين تم فيهما تحديد ورصد أهداف دقيقة لقتل قيادات المقاومة الفلسطينية مجددا، وقتل الأسري الإسرائيلين معهم. وهو الدرس القصير الذي علينا تعلمه في الشأن المتعلق بعملية السلام الإسرائيلية العربية ككل. فهو سلام للدرس والفحص ولتحديد الأهداف والإختراق، إذ أن إسرائيل الكبرى أيضا هدفا واضحا واستراتيجية لن تتركهما دولة الاحتلال أبدا، وهي تسعى للتفوق الكامل في محيطها الإقليمي لتحقيق أهدافها، فهل حقا آن أوان تغيير لغة وطريقة التعاطي السياسي معها؟ هل حقا آن أوان العودة للوعي الحقيقي بها كتهديد وجودي؟ أكثر ما كان يشغلني طوال الثلاثين عاما الماضية في عملي المهني هو مسألة الرؤية الحقيقية للشعب المصري والعربي لأهداف الكيان المزعوم، إذ أن الوعي العام والوجدان العام والذي تشكله الثقافة والفنون قد بقى هو الحارس التاريخي لمصر والعرب في محاولاتهم لحل القضيـــــــة الفلسطينيـــــــــة. سرديات عدة تم إطلاقها لمحو تاريخ فلسطين، وقد تم إحباطها عبر الثقافة الوطنية والفنون. وقد كنت ولا زالت أعتقد أن ثقافة الأطفال العرب هي المستهدف الأول لنا كي يعرف جيل الغد تاريخ القضية وتاريخ الصراع، إن الخلط المذهل في الأدوار والتحالفات والوهم الأمريكي بأن العرب والمسلمين يكرهون أمريكا، هو سردية أخرى صهيونية تم ترويجها للعالم كله حتى صدقهـا الأمريكان، دون إدراك لأن أي توتر عربي أمريكي شعبي أو رسمي مصدره هو الإنحياز التام الظالم الأمريكي لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. ولذلك يبقى تاريخ الصراع ومساراته من المواجهات المسلحة إلى معاهدات السلام ضرورة لثقافة الأطفال وللجدد ولمتابعي الشأن العام الذين لا يعرفون تاريخ وجوهر هذا الصراع. وإذ لاحظت اهتماماً كبيراً لعدد من المنظمات الأممية مدفوعا من الكيان الصهيوني لطباعة موسوعات للأطفال بعضها لا يزال في المجال العام، ومنها موسوعة تسمى موسوعة الطفل تم فيها حذف كلمة فلسطين من الخريطة وتم وضع أسم الكيان الصهيوني عليها، وهي موسوعة موجهة للأطفال تحكي تاريخ الصراع بطريقة تتجاهل إنتصار أكتوبر، وتتجاهل الحضارة الفلسطينية التاريخية وتصور تلك الأرض المحتلة وكأنها مستنقعات وصحاري، وتصور الكيان وكأنه كيان ديموقراطي، وهي الصورة التي يرسمها الاحتلال لنفسه، إذا يترك الآلآف يتظاهرن في القدس ضد الحرب مطالبيـن بالأســري، ويذهب ليلقى بالنار فوق المدنيين العزل في غزة. إنها معركة الوعي التاريخي، إذ إن وعي الشعوب هو صمام أمان المستقبل ووعيها العام ووعي الأجيال الجديدة التي لم تتألم بمتابعة الصراع وعاشت مراراته وقسوته، لهو القادر حقا على تحقيق العدل في الحاضر والمستقبـــــــل. تبقى السياسة للسياسيين وتبقى الحرب لأهل الحرب، أما المعنى والجوهر والقضية وتعيين مواقع الأصدقاء والأعداء فهو جوهر عمل أهل الثقافة والفنون. ستعبر الأزمة، وربما نبدأ في مسارات أخرى نحو حلول ما، لكنها ستبقى حلولا نسبية ووقتية حتـــــى يأتــــي وقـــــت تحقيــــق الأهداف الثابتة التي لن تتزحزح لدى الكيـــــــان الصهيوني إلا بالقــــــوة، وسر هذه القوة هو وعي الأجيال القادمة، لأنه حقا صراع سيبقى لأجيال قادمة، وستبقى فلسطين طالما بقيت الفكرة. لأن قوة القتل المعادية للإنسانية هي علامة ضعف كبرى وليست علامة قوة ونصر، كما تحاول دولة الاحتلال الصهيوني أن توهم نفسها والمحيط الإقليمي والعالم بذلك. إنها حقا قوة التدمير الدالة على هزيمة كبرى، لأنه ليس هكذا يكون النصر، وليس هكذا يكون الحل.