
د. إيمان ضاهر تكتب: فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب

رحِمُ الدمِّ والعقيدةِ مصرٌ سِرُّها خالدٌ، هو "الرحِمَانِ"، فاسألوا الفقهَ والحديثَ ونحواً كيفَ كانتْ لهم كصدرٍ حانِ واسألوا "الضَّادَ" من حَمَاها تُجِبْكمْ إنّهُ الأزهرُ الشريفُ حَمَاني، وأذكروا لي رأساً لعِلْمٍ وفَنٍّ لم تكنْ فوقَهُ لمصرَ يدانِ. إنه الإمام أحمد محمد أحمد الطيب الحسَّاني، ولد بقرية القُرنة غرب مدينة الأقصر في الثالث من صفر لعام ١٣٦٥هـ الموافق للسادس من يناير لعام: ١٩٤٦م، لأسرة عريقة شريفة مشهورة بالعلم، والصلاح، ينتهي نسبها إلى سيدنا رسول الله ﷺ. " الانفتاح للعلم والعالم". الدكتور أحمد الطيب رجل معروف بثقافته وانفتاحه. ومنذ سن العاشرة بدأ حفظ القرآن الكريم في مدرسة الأزهر في قريته. أكمل دراسته في هذه المؤسسة انطلاقاً من القاهرة، حيث حصل سنة١٩٧١ على درجة الماجستير "العقيدة وفلسفة الإسلام". ثم درس في باريس حيث حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون. وللشيخ أحمد الطيب العديد من الدراسات والمؤلفات في العقيدة والفلسفة الإسلامية. وهو مؤلف ترجمات للأعمال الفرنسية في الفلسفة الإسلامية. وقد أدى ذلك إلى شغله عميداً لكلية الفلسفة بجامعة الأزهر قبل أن يتم تعيينه مفتياً للجمهورية المصرية في عام ٢٠٠٢-٢٠٠٣، ثم رئيساً للجامعة. وهو رجل ثقافة، متجذر في الثقافة الإسلامية التقليدية للعلماء ، وأيضًا على دراية كبيرة بالادب والفكر الغربي.
ومن المعروف أيضًا أن الشيخ الطيب مسلم معتدل. ورغم منصبه الرفيع، ظل الدكتور الطيب دائماً قريباً من جذوره الريفية في القرنة بالأقصر، حيث خلف والده كرئيس للطريقة الخلواتية، إحدى المدارس الصوفية الكبرى في صعيد مصر. ويكتب عنه: "كل من يعرفه عن قرب يعرف جيداً أنه مسلم معتدل شجع الحوار مع الدول الغربية. وفي الواقع فهو الذي بادر بالشراكة العلمية بين جامعة الأزهر وجامعات بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا".
"الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، يسعى للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة"
شخصية تجمع بين الباحث والأستاذ الأكاديمي المتخصِّص في الفلسفة التي درس أصولها في فرنسا، وصاحب البحوث العلمية الجادة، والمنهج التدريسي الناجح في جامعات عربية متعدِّدة. أليس هو العالم المسلم الورع الذي يمثل الوسطية الإسلامية البعيدة عن الغلوّ، والداعية إلى ثقافة التسامح والحوار والدفاع عن المجتمع المدني؟ لقد برز تجلي أبعاد هذه الشخصية من خلال مواقفه التي برزت أثناء مشيخته للازهر الشريف ودعواته المتكررة لنبذ الفرقة والعنف، والاحتكام إلى العقل، والحفاظ على هوية المجتمع وتماسكه. إنه الدكتور الطيب الجامع بين العالم والداعية المستنير الذي يقدم الفكر الإسلامي من خلال معرفة دقيقة باللغتين الفرنسية والإنجليزية فضلاً عن العربية. "الدولة المصرية، المظلة الرئيسية للازهر الشريف" يجسد احترام الدولة المصرية على رأس كل شيء التي يندرج الأزهر تحتها، حيث يعتبر الأزهر أحد مكونات "الدولة المصرية" لذا فلا بد من الموازنة بين كون الشيخ إماماً للمسلمين السنة في العالم، وبين صفته داخل الدولة وما يحتم عليه ذلك من موازنات سياسية ضرورية واستخدام الأدوات المتاحة في إدارة العلاقة مع الدولة ومكوناتها. ينطلق الإمام من احترام المذاهب والاجتهادات الفقهية مع التمسك بثوابت الدين واعتبار الحفاظ على الثوابت الدينية من صميم دور الأزهر مهما كان ثمن ذلك، ومهما كان الطرف الآخر في هذا الصراع. يؤمن الشيخ الأكبر بأن الأزهر الشريف ليس مجرد مؤسسة تعليمية، ويرى أن للأزهر دوراً كبيراً في المجتمع المصري وأيضاً دوراً كبيراً ينبغي أن يضطلع فيه في القضايا العالمية.
"التطرف والإرهاب قبيحان ومستهجنان ويمثلان خروجاً عن وسطية الإسلام"
لطالما أكد وشدد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أن "وسطية الإسلام" تلزم هذه الأمة مسؤولية الحفاظ على الحضارة الإنسانية وحماية تطورها من أي انحراف عن الهدف المستقيم. وحذر من سوء استخدام التطور الحديث بحيث يصبح رغم ثروته المادية والتقنية مصدراً للتعاسة والغرابة والتيه حتى أن العاقل لا يفرق بين الخير وبين ما يتبعه وما يتركه.
"العالم الجليل والمتصوف الزاهد والمفكر الذي يفخر بدينه"
يؤمن الامام الأكبر شيخ الأزهر(وهو محب لدينه، يملك عقلًا مستنيرًا بلا تعصب، ومؤمن بلا تجاوز) أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحث المسلمين على ذكر الله في كل وقت. لأن الإسلام في حركة دائمة، ويساعد المسلمين على إدارة صراعات الحياة. لا يحتاج المسلم إلى مكان معين أو شكل معين لأداء العبادة. فهو يعبد الله وهو يسير في الأرض ليعمرها ويأكل من رزقها. وكذلك المسلم يأكل ويشرب من غير إسراف ولا إسراف. إنه مزين بكل زينة الحياة الدنيا، ولكن من دون عجب، أو غطرسة، أو وقاحة. فهو مسؤول عن أداء العبادة اليسير، سواء كانت يومية، أو سنوية، أو تمارس مرة واحدة في العمر. وهذا يجعله على اتصال دائم بالله تعالى، ليبقى سالماً من وساوس الشياطين والنفس وشرور رفقاء السوء.
إن التوسط لسماحته يمثل صمام الأمان لهذا الدين. وكذلك فإن الانحراف عن التوسط (الإفراط أو التراخي) يعد خروجاً عن الدين نفسه. والإسراف زيادة على ما شرعه الله لعباده، والتفريط مخالفة شرع الله وأحكامه. إن الإفراط والتفريط أمران قبيحان ومستهجنان، لأنهما يمثلان انحرافًا عن الوسط الذهبي، وهو العدالة. "العدالة واحدة، والظلم متعدد، فإن ارتكاب الظلم أسهل من تحقيق العدل".
من بالغ في أحكام الدين، فحرم على الناس ما أحل الله لهم، أو طلب ما لم يفرضه الله عليهم، فليس بأفضل حالاً ولا حالاً ممن يتجرأ على إصدار الفتاوى أو الآراء التي تبطل الدين وتخالف الشريعة من أجل الحصول على منصب أو مال أو جاه. فيحلل الحرام، أو يخلط بين أحكام الحلال والحرام. كلاهما متجاوزان لحرمة الإسلام. وهم كاذبون، يمنحون أنفسهم الحق في أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى. "لا يكتمل العقل إلا باتباع الحقيقة."
ويتابع سماحته: إن كل هذه المحاولات في الحقيقة هي محاولة لتفريغ الإسلام من مضمونه الحقيقي الذي أراده الله تعالى لهذه الأمة، والذي مارسه رسوله ﷺ وطبقه قولاً وعملاً. لقد ابتلي المسلمون في كل مكان وزمان بجموع من المضللين الذين يضللون الناس بالفتاوى والآراء التي تغري الشباب، إما بإهمال أحكام الدين وأصول الشريعة، أو بالمبالغة في حبسهم وسحبهم من المجتمع. فلا وقاية من سموم هؤلاء إلا بسؤال العلماء الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله. بالنسبة للامام الأكبر أن هناك ثلاثة أمور لا بد ذكرها قبل الخوض في جوانب الوسطية في التشريع الإسلامي. أولاً: يعتبر القرآن الكريم عند جميع المسلمين المصدر الأساسي للتشريع الاجتماعي والقواعد العامة في التشريع الاقتصادي والسياسي. وهذا الإطار التشريعي العام هو ما تعبر عنه اليوم ثوابت الشريعة الإسلامية. وتحدث أيضاً عن أمثلة المتغيرات، وأحكام القرآن فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية. كل هذه القواعد هي أحكام عامة تسمح لنا بمواكبة قانون التغيير الذي يحكم حركة الكون بكل أنواعه: البشرية والحيوانية والنباتية. وأما المسلمة الثانية فقد أكد فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أنه ليس هناك دليل في القرآن الكريم أو في السنة الصحيحة لا من قريب ولا من بعيد على أن تشريعها مقيد بفترة تاريخية محددة، حتى إن للمسلمين عذراً إذا أرادوا أن يقطعوا بهذه التشريعات بالانتقال إلى تشريعات أخرى لتنظيم مجتمعهم وطريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم. أليس القرآن الكريم والسنة المطهرة يتحليان والثبات والمرونة والحركة والقدرة على مواكبة المتغيرات. ثالثاً: اليس من البديهي أن المفكرين الصالحين، حتى الذين لا يؤمنون بالإسلام، هم على دراية أن تشريعات الإسلام زودت البشرية بكم كبير من الفكر والمفاهيم. إن النصوص التشريعية تعد من اعظم القيم في تاريخ الحضارات الانسانية. "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والتعايش المشترك".
الإيمان يحث المؤمن رؤية الآخر أخاً يسانده ويحبه. ومن الإيمان بالله الذي خلق الكون والمخلوقات وجميع البشر متساوين برحمته، فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية، وحماية الخليقة والكون بأكمله ودعم كل إنسان وأولئك الأكثر احتياجًا فقرًا.
واعترافا بهذه القيمة السامية، ولقاءات مختلفة في جو من الأخوة والصداقة، شارك أفراح وأحزان ومشاكل العالم المعاصر، على مستوى التقدم العلمي والتقني، والفتوحات العلاجية، والعصر الرقمي، ووسائل الإعلام ، والاتصالات؛ على مستوى الفقر والحروب والمصائب التي يعيشها العديد من الإخوة والأخوات في مختلف أنحاء العالم، بسبب سباق التسلح، والظلم الاجتماعي، والفساد، وعدم المساواة، والانحطاط الأخلاقي، والإرهاب، والتمييز، والتطرف، والعديد من الأسباب الأخرى.
ومن خلال هذه التبادلات الأخوية والصادقة ، ومن اللقاء المليء بالأمل بمستقبل مشرق لجميع البشر، ولدت فكرة هذه "الوثيقة حول الأخوة الإنسانية ". وثيقة صادقة وجدية أنها إعلاناً مشتركاً للإرادة الطيبة والوفية، تهدف إلى دعوة كل الناس الذين يحملون في قلوبهم الإيمان بالله والإيمان بالأخوة الإنسانية ، إلى الاتحاد والعمل معاً، لكي تصبح هذه الوثيقة دليلاً للأجيال الجديدة نحو ثقافة الاحترام المتبادل، في فهم النعمة الإلهية العظيمة التي تجعل من كل البشر إخوة.
"إن الوحدة بين المسلمين والمسيحيين تعتبر صمام أمان مهم للغاية لمصر". إن الإمام الطيب هو حجر العثرة أمام جماعات الإخوان المسلمين. لقد دافع في واقع الأمر بشدة عن الوسطية الذهبية للإسلام (ببعده الروحي المتمثل في التصوف) في مواجهة الجهود التي بذلها أولئك الذين سعوا إلى تحويل الإسلام من دين الوسطية الذهبية إلى نظام ثيوقراطي. مما يكرس شيخ الأزهر شخصية مؤثرة للغاية على نطاق عالمي. "إن العالم يحتاج حقًا إلى الصداقة والتعاون والتضامن"، بما يتجاوز الاختلافات الثقافية أو الدينية." هذه هي كلمات الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين، في رسالة بمناسبة اليوم العالمي للأخوة الإنسانية. "تظهر أيضًا الأمل في توفير أدوات فعالة لمعالجة الأزمات والتحديات التي تواجه الإنسانية"، بشكل خاص على الأشخاص الضعفاء، ولكن أيضًا على الذين قست قلوبهم بسبب الثروة التي يمارسون من خلالها سلطتهم. "أخي العزيز فرانسوا" ويتحدث الامام الطيب عن الفقراء باعتبارهم "ضحايا المادية الحديثة بكل أنانيتها المفرطة"، ويؤكد على خطورة تقديس الإنسان و" ميوله الفردية". ثم حيا الإمام الأكبر "الأخ العزيز فرانسوا" بابا الفاتيكان الاعظم وقد وصفه بأنه "رفيق شجاع على الدوام على طريق الأخوة والسلام". كما أعرب عن عميق امتنانه للشيخ محمد بن زايد "الذي يسير على خطى والده في مجال العمل الخيري".
ويشيد شيخ الأزهر بـ"الجهود المبذولة للترويج لوثيقة الأخوة الإنسانية والدعم الصادق والمخلص للمبادرات الرامية إلى دعمها": "اهمال الأحكام المسبقة والصراعات التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى إراقة الدماء والحروب بين الناس، وخاصة بين أتباع الدين الواحد ويقول الطيب: "إنه مثل حلم أصبح حقيقة"، مشيرا إلى أن "جميع البشر إخوة وأخوات".
وفي ختام هذا المقال أريد الاشارة أنَّ ما ذُكر فيه لم يكن إلا غيضًا من فيضٍ، وقليلًا من كثيرٍ، حاولنا فيه أن نضع بين أيديكم الملامح الرئيسة لسيرة فضيلة الإمام النَّيِّرة، ومسيرته العامِرة، وشخصيته الفذَّة المُؤثرة؛ حتى يقتدي بها المُقتدُون في مجالات تميزها وتفوُّقها كافَّة. فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب سيرة ومسيرة حافلة بالعطاء في خدمة الإنسانية وترسيخ قيم الوسطية والاعتدال.