لعنة الجمال
محمد سعد عبداللطيف يكتب: لعنة الجمال.. من يوميات كاتب في الأرياف
صرخة في حقول الذرة.. في ليلة مظلمة، حيث تتماوج سنابل الذرة كبحر أخضر تحت الرياح الثقيلة، خرجت حنان كعادتها لتساعد والدتها في جمع العيدان اليابسة. لم تكن تعلم أن الظلام ليس فقط في السماء، بل في القلوب التي تخفي الشر وراء الأقنعة. كانت فتاة جميلة، جمالها لعنة في قرية لا ترحم، حيث تتحول الألسنة إلى سكاكين، وتصبح الأعين محاكم قاسية. لم تكن حنان تعرف أن هذه الليلة ستغير مصيرها، وأن خطوتها داخل الحقل ستكون كالسقوط في بئر بلا قاع. بينما كانت تجذب عيدان الذرة، أحست بظل يقترب منها. التفتت، فرأت ابن ناظر العزبة يقف هناك، يراقبها بعينين جشعتين. منذ زمن، كان يحاول التقرب منها، لكنها كانت تصده دومًا. أما الليلة، فقد قرر أن ينهي هذه اللعبة بطريقته الخاصة. "لماذا تهربين مني دائمًا؟" قال بصوت ناعم يحمل في داخله قسوة مخفية. تراجعت، أدركت أن أحدًا لن يسمعها إن صرخت، لكن غريزة النجاة كانت أقوى من الخوف. حاولت الفرار، لكنه أمسك بمعصمها، فصرخت. صرخت كما لم تصرخ من قبل، صرخة كانت كفيلة بإيقاظ النائمين في القرية. هرع أهل القرية نحو الحقول، مصابيحهم تتأرجح في الظلام، وهم يلهثون بأسئلتهم الحادة. وما إن رأوا حنان تبكي وسط الذرة، وابن الناظر واقفًا أمامها، حتى انفجرت الشائعات دون أن يُسأل أحد عن الحقيقة. "لقد مسّها بسوء!" "الشرف في خطر!" "لا بد من القصاص!" لم يسألوا، لم يمنحوها فرصة للكلام، بل تحولوا إلى قضاة في محكمة بلا عدالة. حكم المجتمع... والهرب إلى المجهول في صباح اليوم التالي، كانت القرية بأسرها تلوك اسمها، تتقاذفها الألسنة كما تتقاذف الريح أوراق الخريف. حتى أمها، التي كانت تعلم براءتها، لم تستطع مواجهة سطوة العادات والتقاليد. في تلك الليلة، أدركت حنان أن خيارها الوحيد هو الهرب. خرجت من منزلها تحت جنح الظلام، تحمل في قلبها خوفًا وفي عينيها دموعًا لم تجد من يمسحها. كانت تعلم أن العالم خارج القرية قد يكون قاسيًا، لكنه على الأقل لن يحكم عليها قبل أن تستجوب. وصلت إلى المدينة بعد أيام من التيه، باحثة عن مكان آمن، عن حياة جديدة، عن بداية لا تلاحقها فيها اللعنات. حين تصبح المدينة فخًا جديدًا ظنت حنان أن المدينة ستكون ملاذها، لكنها سرعان ما اكتشفت أن الوحوش لا تعيش في القرى فقط. طرقت أبواب المصانع، بحثت عن عمل، لكن أينما ذهبت، كانت العيون تلاحقها، تتفحص ملامحها، وكأنها شيء لا إنسان. في إحدى الليالي، وقفت أمام مقهى شعبي، تلتقط أنفاسها، حين اقترب منها رجل ذو لحية خفيفة وصوت هادئ: "وحدكِ هنا؟" لم تجب. "تبدين كمن تحتاج إلى مأوى." لم تكن تعلم أنها خرجت من نار القرية لتسقط في جحيم المدينة، حيث تُباع الأحلام بسعر بخس، وحيث النساء إما فرائس أو ناجيات بالكاد. لكنها لم تكن فتاة تستسلم بسهولة. حين تعود الأشباح من الماضي مرت سنوات، وحنان لم تعد الفتاة التي هربت ليلة الاتهام، بل امرأة قوية، تحترف النجاة. عادت إلى قريتها، لكن ليس كالهاربة، بل كمن عاد ليطالب بحقه المسلوب. حين رأوها، انتشر الخبر كالنار في الهشيم: "حنان عادت!" كان ابن الناظر قد أصبح رجلاً ذا نفوذ، يجلس على كرسي والده، يحكم الناس بالمال والسلطة. كان يظن أنه محا ماضيه، لكن الماضي لا يُمحى، بل ينتظر اللحظة المناسبة للعودة. وفي ليلة السوق، وبينما كان الجميع منشغلين ببيع وشراء حاجياتهم، وقفت حنان في وسط الساحة، رفعت رأسها، وقالت بصوت سمعه الجميع: "أنا التي قلتم إنها جلبت العار... لكن هل سألتم أنفسكم يومًا أين كانت الحقيقة؟" توقف الجميع، نظروا إليها بدهشة، ثم همس أحدهم: "إنها تكذب!" لكنها لم تهتم، بل أكملت بصوت أقوى: "أنا لم أهرب لأنني مذنبة، بل لأنكم كنتم القضاة والجلادين في آن واحد. ابن الناظر لم يلمسني، لكنه حاول... وعندما صرخت، لم تصدقوني، لأن في قريتكم، القوي لا يُحاسب، أما الضعيف فيُذبح بلا محاكمة!" نظر الجميع إلى ابن الناظر، الذي أصبح شاحبًا، عاجزًا عن الرد. ولأول مرة، بدأت الثقة تهتز من حوله، فالشك أشد فتكًا من السيف. انتقام بلا دماء... لكنه أشد قسوة في الأيام التالية، بدأ كل شيء يتغير. ابن الناظر لم يعد ذاك الرجل الذي يهابه الجميع، بل تحول إلى ظل، يهرب من العيون التي كانت تبجله يومًا. لم تسفك حنان دماءه، لكنها فعلت ما هو أشد قسوة: جعلته يخسر سلطته دون أن ترفع عليه سكينًا. وفي النهاية، حين سقط عن عرشه، لم يعد هناك من يتذكره... بينما بقي اسم حنان خالدًا، ليس كضحية، بل كقوة لا تُكسر. الحقيقة الغائبة في حقول الذرة في حقول الذرة، حيث تهمس السنابل بحكايات لا يسمعها إلا من أرهف السمع، تبقى الحقيقة مدفونة تحت طبقات من الصمت، تُدفن كما تُدفن الأسرار في الريف المنسي. في قاع المحروسة، حيث تكتب التقاليد مصائر الأبرياء قبل أن يولدوا، وحيث تُحاكم النساء دون محاكم، لا تزال هناك حكايات لم تُحكَ بعد، وصرخات لم تجد من يسمعها. لكن ذات يوم، حين تهب الرياح، ستنهض هذه الحكايات من سباتها، لتكشف للعالم أن الظلم قد يُعمّر طويلًا، لكنه لا يُخلّد... أبدًا...!
















