د. حسام عطا
شكسبير وشاشات دراما النسيان.. قراءة في التلقي الجماعي
في ظل حالة من الضجيج والحدة والعنف تحيط بنا من كل الاتجاهات في وسائل الإعلام المتعددة والتي تطاردنا يوميا بأخبار بالغة القسوة، وفي ظل شاشات لا نهائية تضج بالعنف والقسوة وقصص الخيانة الإنسانية وقسوة البشر، أطل على عقلي ووجداني خبر بالغ الاختلاف عن وليم شكسبير إذ طالعتنا عدد من المواقع الإخبارية الكبرى في السابع من مارس الجاري 2025 بخبر مبهج أيقظ وجداني من حالة سكون عميق ليزدهر مجددا بعالم الشاعر الاستثنائي البريطاني المواطن العالمي الرمز لكل المسرحيين حول العالم وليم شكسبير إذ أعلنت الباحثة د. ليا فيرونيزي عن نسخة غير معروفة من قصيدة ويليام شكسبير الشهيرة "القصيدة 116" من مجموعة السوناتا داخل مجموعة شعرية تعود إلى القرن السابع عشر في مكتبة أكسفورد.
وتحت تصنيف محفوظ هناك بأسم الثبات في الحب وجدت الباحثة القصيدة دون ذكر أسم شكسبير، وبمراجعتها تطابقت مع قصيدة من قصائده الشهيرة المعروفة بمجموعة السوناتا الشكسبيرية وهي القصيدة التي حملت في المجموعة رقم سوناتــــــا 116 من قصائده الشعرية القصيرة. ولكن القصيدة التي وجدت في مجموعة إلياس أشمول مؤسس متحف أكسفورد الأشمولي قد تغير بها بعض من الأبيات في مطلعها إذ تم إدماج هذا الثبات في الحب آنذاك بالإشارة للولاء السياسي في زمن الحرب الأهلية الإنجليزية. مما يجدد فكرة أن العمل الفني بالفعل يحمل معناه في إطار سياقه التاريخي.
جدير بالذكر أن شهرة وليم شكسبير في عصره الأصلي في ظل حكم الملكة إليزابيث كانت شهرة كبيرة، ولكنه إزداد قيمة وشهرة عبر الزمن بالتدريج حتى أصبح العلامة الأشهر في الدراما العالمية، وبات أسمه علامة دالة على الجمع بين العمق والحركة والتشويق والمغامرات والفلسفة والقراءة العميقة لسلوك البشر كأفراد وجماعات.
وهو في مجرد تذكر إبداعه الدرامي المسرحي المتنوع والذي أعادت هيئة الإذاعة البريطانية - B.B.C - إطلاقه مجددا بصورة معاصرة، تحمل ذات الحوار المسرحي مع تغيير معاصر في الصورة مثل نسخة هاملت 2005، والتي تحولت فيها مملكة الدانمارك في المعالجة المصورة إلى شركة معاصـرة، يعيدنا إلى عالم الدراما الرائع. مما يجعل شكسبير قابلا للتفسير المثالي المعاصر في عالمنا الآن، ولذلك كثيرا ما وصفه النقاد بأنه معاصرنا شكسبير. ويعود ذلك الفهم إلى النظرة الفلسفية التي تأسست عليها رؤية وليم شكسبير للحياة، وخاصة في أعماله الجادة حيث يتم تصوير الأمراء والشخصيات رفيعة المستوى في أوج عظمتهم، وهم على وشك الانهيار لتعرضهم لكارثة إنسانيــة، مما يجعل شكسبير يصور لنا أباطيل السعادة والشقاء في الحياة الدنيا. ولعل هاملت وليم شكسبير تعد هي المسرحية الأيقونة في عالمه المسرحي الشعري، بل وهي درة النصوص الكبرى حول العالم وفي تاريخ الشعر المسرحي، ولعل مصدر ذلك وهو الدرس الذي يجب أن تتأمله الدراما المعاصرة مصريا وعربياً، يعود لمقدرة شكسبير على جعل صفات هاملت ومشاعره الدقيقة تتماس مع المواطن البسيط ، الإنسان في كل زمان ومكان.
إنه يمثلنا جميعنا رفم ظروفه الدرامية الخاصة وهو رجل البلاط والجندي ودارس الفلسفة والمحب العاشق والمهتم بالشأن العام، ولكن هاملت هذا الذي سأل أشهر الأسئلة الشعرية أكون أو لا أكون تلك هي المسألة، يبقى هو الشخصية الشاعرية الأكثر عاطفية في عالم وليم شكسبير رغم كل مسرحياته المخصصة لفكرة المحب العاشق المتيم، ويأتي ذلك من العمق الوجودي لرسمه لشخصية هاملت. وهكذا أعادني الخبر المتعلق بوثيقة سوناتا 116 الشكسبيرية عن الحب الثابت المستمر الذي لا يتغير، وهي صفة عاطفية أخلاقية تجعل الحب مثل الإيمان أمرا صافياً سامياً لا يتغير وفق الظروف والأحداث، من حالة الإنخراط في متابعة كل هذه الدرامات عن الحب السائل والعلاقات العاطفية والأخوية والإنسانية الصعبة والتي تطل علينا كفيض صانع لكآبة مؤثرة على الروح الإنساني العام، يجعل من الثبات في الحب والإخلاص الإنساني وحسن المعشر والولاء للأهل والأصدقاء مسألة خارج الواقع، بينما سر مصر وشخصيتها يكمن في المحبة والتسامح والثبات في الولاء الإنساني للأفراد وللجماعة المصرية.
وبينما أستعيد عبر علم الأعصاب الثقافي إدراكا مؤلما للصور العامة اللانهائية ذات الطابع الفظ والساخر جدا لحد العدم، والعنيف والغادر والمخيف أيضا، الذي تكرر عبر سنوات عبر إصرار غريب على استخدام الشاشات والدراما لتصوير واقع متخيل بالغ القسوة، يؤثر بالتأكيد على الحياة اليومية خاصة لدى الأجيال الجديدة، ويدخل عبر علم الأعصاب الثافي في تشكيل ثقافة تؤثر على السلوك العام، إن لم تكن تفرض وتصنع صورا مسيئة عن الشارع المصري، وتعزز الخوف من فكرة قدوم الغرباء حتى للسياحة في هذا البلد الآمن المتسامح الكريم، وذلك عبر كل هؤلاء البلاطجة وشذاذ الآفاق الذين يطلون علينا ضد فكرة المحبة وضد الانسجام العام.
وإذ علمتني التجربة اليومية أن العينة العشوائية التي أتابعها أثناء مروري المحب لمقاهي مصر العامرة، والتي حرصت في معظم الأحيان على تشغيل مباريات الدوري الإنجليزي بعد الإفطار، وبتأملى لعدد الدرامات الكبير الذي شتت فعل المشاهدة الجماعية والتأثير المشترك، وعلى غياب اتفاق مجموعة ما على متابعة عمل ما، ولكل هذا الضغط العام والمشاهد العنيفة والإضاءة القاتمة لمعظم المشاهد العابرة التي مرت بالمصادقة أمام عيني، أجد أن الجمهور هذا العام قد أدرك ما كتبه النقاد وفهم حقا خطورة ما حذر منه علم الأعصاب الثقافي من تأثير كل تلك الصور السلبية، وهي ملاحظة يجب وضعها موضع الاعتبار لأن سياسة الأمر الواقع في تلك الأنواع الدرامية المفارقة للواقع سيقابلها الجمهور تدريجياً في السنوات القادمة إذا ما استمرت بسياسة أمر واقع مضاد، وهي الإنصراف عن المشاهدة، وهو ما بدأ الآن بفكرة غياب جماعية المشاهدة، وغياب العوامل المشتركة بين جماعات المشاهدين في متابعة عمل ما أو مجموعة أعمال. ولذلك فخبر سوناتا شكسبير عن الحب الثابت أعادني إلى عالم الثقة مع الدراما وجوهرها وهدفها النبيل وإنسانيتها، وهو ما يتوافق مع جوهر النقد، في بحثه عن الأثر العام وتجنب الغرق في تفاصيل التفاصيل. إنها سوناتا شكسبير 116 التي هي إكليل الورد في كل الأعراس وقصص الحب التي تنتهي بالزواج حول العالم، إنها الأنشودة الأشهر التي استخدمها الوطن العربي ومصر في زفاف أبناء الطبقة المتوسطة، إنها ترتيل الحب الذي يردده العروسان بعد ترديد قسم العهد العظيم بالزواج، إنهما إنشودة الثبات في الحب والإخلاص الدائم للعهد الإنساني. ولذلك فما أجمل تلك الأخبار المتجددة التي ذكرتني بالحب الإنساني كقيمة عليا كما عرفها عصر النهضة والتنوير في أوروبا، وكما عرفتها مصر والعالم مع الحداثة وعقلها وقلبها، في فعل استيعادي يفكك الحب السائل في عصر ما بعد الحداثة وإنعكاساته الشعبوية الكارثية على الشاشات الدرامية اللانهائية، فالحب كما قال شكسبير حقا في السوناتة 116: لا يتحول الحب في ساعات الزمن أو لياليـــه بل رغم الصعاب يدوم الحب حتى حافة القيامة. فما أحوجنا إليها الآن في مصر المحبة والإنسانية، مصر الحقيقة المغايرة التي لا نراها إلا نادرا في درامات الغلظة والنسيــان.
















