

د. حسام عطا
أفق الحلم الأمريكي والأحلام المرعبة.. إيلون ماسك قراءة درامية
الوجه الآخر للقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية هو ذلك الصعود المتنامي لقدرات إيلون ماسك السياسية، فهو بمنصبه الجديد كوزير للكفاءة الحكومية يكاد يكون هو المفتش العام والمطور العلمي للوزارات الأمريكية.
وإيلون ماسك بميلاده الأول في جنوب أفريقيا ثم هجرته إلى كندا ثم الاستقرار النهائي في أمريكا، هو واحد من هؤلاء الذين سعوا نحو الحلم الأمريكي، وهو أحد أبرز اللاعبين الآن في تعزيز وصناعة هذا الحلم. وفي المسرح سر جوهري لفهم الأحلام الإنسانية، وعبره عدت إلى تاريخ المسرح وإلى مسرحية فاوست لكريستوفر مارلو، إذ يذكرني إيلون ماسك بشخصية مسرحية شهيرة أرادت أن تمسك بالعلم والقدرات اللامحدودة معا، وهي شخصية فاوست الطبيب الشهير الذي باع روحه للشيطان مقابل أن يمكنه من تحقيق ما يريد على الأرض خلال أربعة وعشرين عاماً فقط هي مدة عقده مع لوسيفر، ولست من هؤلاء الذين ينظرون للعلوم من منظور الأديان وبالتأكيد أظل أحد المدافعين عن حرية الإبداع والتفكير والبحث العلمي، ولكني بدأت في التفكير بشأن إيلون ماسك ورغبته اللامحدودة في امتلاك القدرات الكبرى عندما بدأ يدمج عمله وقدراته الاقتصادية ليربط نفسه بالانتخابات الأمريكية كداعم رئيس لدونالد ترامب الذي صار الآن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ومنح إيلون ماسك جائزته الأولى في منصبه الوزاري الجديد كوزير للكفاءة الحكومية.
وهكذا يتناقض في فهمي لطبيعة العلماء هذا الاهتمام السياسي بالعمل الحكومي، خاصة أن إيلون ماسك قد جمع في دراسته وفي عمله المهني بين الفيزياء والاقتصاد معاً، وهو ما إنعكس نجاحاً باهراً في شركاته المتعددة المتلاحقة والتي استخدمت العلوم والتكنولوجيا من أجل تحقيق الأرباح المالية الكبرى. وإيلون ماسك واحد من أصحاب الخيال والعلم معاً، وإذ كان خياله الإنساني المبدع متوجاً بالإرادة القوية والعمل الشاق، فقد ذهب به إلى النجاح الكبير الباهر. إلا أن إيلون ماسك يسعى أيضاً إلى النفوذ، والنفوذ هو أحد القدرات الأساسية في تحقيق الأحلام.، ولكنه يحيط الإنجاز العلمي بأسئلة شائكة. ماسك هو رجل أحلام علمية وليس المال هدفه بالتأكيد، فقد حصل في كل نجاح من نجاحاته على مكاسب كبيرة كانت تكفيه وتزيد، لكنه لم يتوقف عن المغامرة من أجل أحلام جديدة، وإن بدت مستحيلة.
وواحدة من أحلامه الكبرى التي تذكرني بفاوست مارلو هي إمكانية العيش في كوكب المريخ، وخياله الكبير بشأن وجود كائنات حية في الفضاء ورغبته في التواصل معها، وامتلاكه لأول شركة خاصة في الصواريخ الفضائية الباليستية وسعيه نحو الكواكب الأخرى خارج كوكب الأرض، إنها سردية الوفرة الهائلة للعلم والمال والنفوذ معاً، وكل ذلك حرية علمية لا يوجد بها ما يستحق التوقف والمراجعة رغم جموحها بعيداً عن مشكلات عديدة تحتاجها البشرية وتنتظر تدخل العلم الحديث لحلها. أما الحلم الخاص المفزع فهو ما يدفعنا للمساءلة والتأمل، وهو حلم مرعب عن تلك الشريحة التي يسعى بعد انتهاء تجربتها على الحيوانات بأن يزرعها في الرأس الإنساني كي يتم شحنها وتغذيتها في مزج بين الإنسان والآلة.
ولا شك أن لا قدريته التي أعلنها بشأن أعتقاده الإيماني كمواطن عالمي، إذ أعلن أنه يؤمن بوجود قوة تحرك الكون مع عدم إيمانه بأي دين سماوي، لهي مسألة تتشابه حقاً مع إعتقاد فاوست كريستوفر مارلو ذلك العالم الذي ترك اللاهوت وذهب لعبادة العقل البشري، والرغبات اللامحدودة للإنسان.
وإذا كانت علوم الفيزياء والفضاء والتكنولوجيا والاتصال والسفر والطب والهندسة والذرة وغيرها قد أنهت فكرة المزج بين العالم والساحر، تلك الفكرة التي ظهرت في بدايات عصر النهضة الأوربية وتجلت في رؤية العلماء المبتكرين وكأنهم سحرة على علاقة بعالم السحر العجيب.
فمن المؤكد أن إيلون ماسك لم يستخدم الشيطان في نجاحاته العلمية والتكنولوجية الباهرة، وبلا شك أنه أحد أبرز العباقرة في الربع الأول من قرننا الحادي والعشرين، ولا شك أن عمله في سفر الأموال وتداول المعلومات حول العالم جعله لاعبادولياً كونياً مؤثراً في كل بقعة من بقاع الكرة الأرضية. أما أن ماسك يسعى لجعل الإنسان الآلي "الروبوت" في وظائف عديدة ليحل محل العامل البشري، فهي مسألة لا تتعلق بسوق العمل، أو بالطرد من الوظائف أو ما يتواتر ذكره بشأن هؤلاء الآليين الجدد.
فالمسألة ذات صلة مباشرة بوجود بشر آلي جديد يسعى ماسك لجعله أكثر ذكاء من الإنسان.
ولعل الأسئلة التي تأتي في أفلام الخيال العلمي عن سيطرة الروبوتات على البشر، وجعل الإنسان تابعاً للآلات البشرية الجديدة لهي أسئلة على خيالها المرعب قد باتت تستحق طرحها على الأرض الواقعية. وإن يتعاظم الواقع الموازي أو العالم الافتراضي عبر التكنولوجيا حول العالم، ويؤثر على سعادة الإنسان تأثيراً سلبياً، فإن فكرة تفوق الآلة على الإنسان والدمج بين الإنسان والآلة لهي فكرة حقاً مفزعة ومخيفة، وهي محاولة لا قدرية تلهو بجوهر الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض.
إيلون ماسك بالتأكيد رجل من رجال العالم الواسع، وهو ليس مزوداً بقدرات آلية وليس متحالفاً مع الشيطان وليس ساحراً، إنه عالم فذ واقتصادي ومسوق كبير قادر على إيجاد الشركاء وقادر على تحقيق أحلامه الكبرى.
فما هو ذلك السحر الجديد الذي بدأ إيلون ماسك في إقامة عهد موثق معه؟، لا شك أنه النفوذ السياسي الواسع الذي حظى به مؤخراً.
وهو ذلك النفوذ الذي سعى إليه سابقاً لدى الروس كي يحصل على الصواريح الباليستية من أجل إطلاقها في الفضاء، ولأنه مواطن عالمي مهني جوهر وجوده هو عمله المهني العبقري، فقد توجه ماسك إلى هناك ورفض الروس ذلك وسخروا منه، لأنهم يعرفون الفارق بين طموح العلماء المهني اللامحدود وبين العمل المؤسسي للدول الكبرى.
ولذلك ووفقا لما هو متعارق عليه من ثوابت وأخلاقيات البحث العلمي، فإن تمكين العلماء من الدمج بين الإنسان والآلة لهو أمر محفوف بالمخاطر على سيد الأرض ألا وهو الإنسان.
وإذا كان علم العالم وطموحه اللامحدود هو طموح مهني فإن إدماجه بنفوذ كبير للحكومة الأمريكية يجب أن نراه خطرا إنسانيا، يجب أن تحذره المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يجب أن تراه مواثيق حقوق الإنسان خطر على وجود الإنسان الطبيعي على هذا الكوكب أرضنا الأم.
لأن للعلم أخلاقا أساسية حتى ولو خلت السياسة من الأخلاق، وإلا خرج الأمر عن السيطرة البشرية.
هذا وربما يبدو فاوست مارلو لعدد من النقاد هو بداية التفكير في المسرح الإنجليزي لسيادة العقل وإعلان الحداثة، ولإنشاء الجسور بين الأنهار، وتعبيد الطرق السريعة وميلاد حديث للكيمياء ورؤية علمية للكرة الأرضية، إلا أن عقل الحداثة كما مثله فاوست بمنظور فلسفى معاصر، لم يفكر أبدا في العدوان على جوهر الخلق البشري وتغيير جوهره الإنساني. وإذ تتجلى حيوية الإنسان في النجاح والفشل والمحاولة المستمرة والقفز فوق قدراته المحدودة، فإن تغيير قدراته هو بعيداً عن المخترعات التي إبتكرها البشر من أجل تحسين الحياة، لهي مسألة تحتاج إلى نقاش وإلى ضمانات لا تصل بالبشرية إلى الخروج من إنسانيتها نحو مخلوق مزدوج غريب هو مزج بين الإنسان والآلة.
لقد أصبحنا جميعنا عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي وقدرات الهواتف الذكية ووجودنا في قلب العالم السيبراني شئنا أم أبينا أفراد في عالم رقمي موحد. ولذلك أصبح وجودنا الرقمي هو أحد أهم شروط وجودنا الحقيقي في عالمنا المعاصر، وهو نصف الطريق نحو الدمج اللاإرادي في نظام عالمي جديد. لم يكن فاوست مارلو يحلم بكل ذلك إذ أن تحالفه من الأباليس وقدرات الجن، بل وكل ما إمتلكه من عقد مع الشيطان لم يكن يدعوه أبداً للتفكير في السيطرة على عقول البشر كلهم عبر شريحة ذكية تؤثر في عمل الناصية في الرأس، والناصية هي تلك المسؤولة عن الإختيار والإرادة الإنسانية. والعقل البشري بما يملك من قدرات لا محدودة يمنحه الله راحة النسيان الرائعة وراحة غياب بعض مما عرفه في دهاليز الذاكرة التي تحتفظ حاضرة بما تريد ويذهب ما لا تريده إلى نعمة النسيان، ونعمة عدم القدرة على إتمام كل العمليات العقلية تعزيزاً للاختلاف والتميز البشري. وهو سر تعدد قدرات البشر بين التفوق في القتال والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا وقدرات الوعي واللاوعي الإيمانية التي تعبد الله الواحد الأحد خالق هذا الكون ورب الإنسان.
إن هذا الحلم العلمي الكابوسي بدمج الإنسان بالآلة لهو حقا حلما خطرا على البشرية، إذا ما تبنته قوة سياسية كبرى. ولذلك فإن الشيطان ينظر ساخرا وهو يقرأ من قمة زمن معاصر ما كتبه الكاتب الإنجليزي كريستوفر مارلو عن فاوست ورغباته اللامحدودة في العلم والنفوذ والشهرة والحصول على كل ما يريد.
إن مثل هذا التفكير لهو حقاً أخطر من احتلال أوطان الغير وتهجيرهم من بيوتهم وسرقة ثرواتهم، وهو نظام أبعد كثير من كل مخاطر النظام العالمي الجديد. إنها السيطرة النهائية الحقيقية على الإنسان وتدمير جوهر إنسانيته، وهو الخطر الذي يجب أن ننبه له مجدداً، وأن يصبح هدفاً لكافة البشر حفاظاً على إنسانيتهم من الدمج في الآلة التي تحكمها إرادة فرد واحد لا نعرف حقاً مدى أحلامه بشأن مستقبل البشرية، ومن هؤلاء الذين يدعمون تلك الأحلام المرعبة؟!