

وليد طوغان
تفويض جديد لعبدالفتاح السيسى
من أمام معبر رفح، قال المصريون كلمتهم: لا للتهجير.
ومن أمام معبر رفح، أصدر المصريون إعلانًا إلى العالم، بأنهم لن يسمحوا بتصفية القضية، وأن مصر لن تُمَكّن أحدًا من إجهاض أحلام شعبٍ فلسطينيٍ عانى ويعانى ويذوق الأمَرّين، وهو متمسك بالأرض وبالعرض.
الحشود على معبر رفح تفويض جديد لعبدالفتاح السيسي.
تفويض شعبى بامتياز، فى التعامل مع قضية وجودية لشعب ظلمه الزمن، وأراد بعضهم أن يزيد عليه ظلمًا تاريخيًا، فتضيع الأرض، ويُنتَهك العرض، وتذهب المسألة إلى وادي النسيان.
فى الجانب الآخر، من رفح، ملأ الفلسطينيون شوارع غزة بصور رئيس الدولة المصرية، وكتبوا تحت الصور شعارات وجملًا حماسية تدعم القرار المصري، وتدعم الوقفة المصرية الصلبة فى وجه مخطط بدأ من زمن.. وما زالت سلاسل محاولاته تدور.
أصدر المصريون تفويضًا جديدًا لعبدالفتاح السيسى، فى التعامل مع وضع كارثى لشعب جريح، سرقوا منه الوطن والزمن، وسرقوا منه حقوقًا مشروعة فى الأمان.
قبل أيام، أعاد الرئيس عبدالفتاح السيسي التأكيد على ثوابت مصر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أكد أن مصر لن تشارك فى ظلم.
الموقف المصري واضح، الآن وأمس وغدًا، ومحاولات تفريغ القضية الفلسطينية من شعبها ظلمٌ وفاحشة وساء سبيلًا، لذلك خرج الشارع تأييدًا لرئيس الدولة المصرية عند معبر رفح.
فى الملمات تظهر معادن المصريين. وفى الأزمات الكبرى، يصطف الشارع خلف الرئيس، برؤية واحدة، ورأى واحد، ودعم مهول.
(1)
الملاحظة غاية فى الطرافة، فالرئيس الأمريكى الذي اتخذ أول قراراته فور توليه الرئاسة بإعادة المهاجرين على الأراضى الأمريكية لبلادهم، كان هو نفسه الذي تكلم عن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم حلًا للقضية !
فى الداخل الأمريكى، أحدث ترامب جدلًا على مستوى واسع من قرارات اعتبرها بعض المحللين، تخصم من قوة الولايات المتحدة، وتخصم من رصيدها عند حلفائها فى الشرق الأوسط.
فى الصحافة الأمريكية استغربوا تصريحاته، وتكلم محللون عن «قرارات شعبوية» لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، وفى النيويوركر ذكر بعضهم أن إدارة المسائل فى السياسة، تختلف كثيرًا عن إدارة الشركات التجارية والفنادق.
مصر أقوى حليف إقليمى للولايات المتحدة فى المنطقة، وتعلم الإدارة الأمريكية مدى قوة وقدرة الدولة المصرية فى المنطقة، فى علاقاتها الاستراتيجية مع مصر كانت واشنطن تدرك إدراكًا تامًا أن القاهرة، فى الشرق الأوسط هى مفاتيح الحلول، وأنها أبواب الاستقرار.
فى المقابل، فإن مواقف الدولة المصرية شديدة الوضوح فى مواجهة كل ما يمس أمنها القومى، ووقفاتها شديدة الصلابة فى مواجهة كل ما من شأنه التأثير سلبًا على القضية الفلسطينية.
وقفت مصر فى مواجهة مخطط التهجير فى سابق الزمان، والمواقف المصرية لا تتغير.
لا تنطلق مصر فى التعاطى مع المشكلات الإقليمية إلا من ثوابت معروفة، ومبادئ لا يمكن أن يغفلها أحد. فى الولايات المتحدة انطلقت الانتقادات لتصريحات الرئيس الأمريكى، تأسيسًا على أنه لا ينبغى أن تفقد الولايات المتحدة حلفاءها فى الشرق والغرب.
القاهرة وواشنطن حليفان استراتيجيان فى مراحل تم البناء عليها منذ أمد طويل. ليس فى مصلحة الولايات المتحدة أن تفقد القاهرة، وفى الوقت الذي قد تأكد لواشنطن على مر التاريخ، أن القرار المصري قرار وطني، لا يعمل على المواءمات، ولا يعرف الخضوع، وفى العواصف يفضل المواجهة ولا يمكن له أبدًا أن يمارس الانحناء.
تظل مصر قوة إقليمية مؤثرة تحمى مصالحها وتصون حقوق أشقائها، والمواقف السابقة الثابتة فى الماضى.. دليل، والموقف المصري الثابت فى الجدل الحاصل الآن، يعيد مرة أخرى الرؤى الاستراتيجية للقاهرة إلى بؤرة النظر، بوضوحها واستنادها إلى منطلقات السيادة الوطنية ورفض أية إملاءات خارجية. تظل مصر قوة إقليمية ضخمة، ومؤثرة، تحمى مصالحها فى المقام الأول، وتصون حقوق أشقائها، فى مواجهة أى محاولات ضغط أو ابتزاز السياسى.
(2)
مرة أخرى، تنطلق مواقف القاهرة تجاه القضية الفلسطينية من مسؤولية أملتها الجغرافيا والتاريخ.
لم يحدث، على طول أمد الصراع العربى الإسرائيلى، أن تخلت مصر عن تلك المسؤوليات، لأنه لم يحدث أن كفت مصر أذرعها فى الدفاع عن الشرف العربى، ولن يحدث أن تفعل.
كلام رئيس الدولة المصرية فيما يتعلق بالتهجير قطع الطريق على أى تكهن أو تأويل. والاحتشاد الشعبى عند معبر رفح، لم يكن مجرد تعبير عن تضامن شعبى مع قرار القيادة السياسية دعمًا للفلسطينيين، ولا كونه فقط تفويضًا جديدًا لعبدالفتاح السيسي فى حفظ حقوق الشعب الفلسطينى، وبالمثل حفظ الحق المصري فى كامل ترابه، إنما كانت رسائل شعبية شديدة الوضوح، بأن الشارع المصري، بكل فئاته، لا يمكن أن يتقبل فكرة إفراغ قطاع غزة من أهله، ولا يمكن أن يترك فرصة لتمكين الاحتلال الإسرائيلى من التمدد فى الأراضى الفلسطينية.. دون حزم.
أثبتت التجارب التاريخية قدرة مصر على الصمود أمام التحديات الكبرى، سواء فى الحروب أو الأزمات السياسية والاقتصادية.
وفى قراراتها، فإن القيادة السياسية مدعومة بالالتفاف الشعبى القوى، لديها من القوة ما يمكنها من إفشال أى محاولة، مهما كان مصدرها، لفرض حلولٍ تتعارض مع الثوابت المصرية التاريخية والأخلاقية.. أو تتناقض مع مصالحها الوطنية.
(3)
ليس مناسبًا القول بأن الولايات المتحدة لم تتصور الزخم الشعبى فى مصر ضد مخطط التهجير، لكن هذا ما حدث.
فى تصريحات للصحافة تعليقًا على الحشود المصرية عند معبر رفح، قال مستشار الرئيس الأمريكى لشؤون الرهائن آدم بوهلر إن الإدارة الأمريكية منفتحة على اقتراح حلٍ بديلٍ لنقل أهل غزة إلى مصر والأردن.
فى الصحافة الأمريكية، اعتبر خبراء أن التصريح استفزاز آخر، ومحاولة ثانية تعرض مصداقية الولايات المتحدة للخطر فى الشرق الأوسط.
قالوا إن الإدارة الأمريكية تحاول أن تلقى الكرة فى ملعب العرب، بحثًا عن حلول للمسألة الفلسطينية.
آخرون اعتبروا الأمر كله أزمة تواجه ترامب أشعلها هو، فى محاولة وصفوها بالطريقة غير المحترفة وغير المصدقة للتملص من كل الاتفاقات التي كانت الولايات المتحدة نفسها طرفًا فيها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
غريب أن يعود البيت الأبيض الآن، وبعد طول سنين للحديث عن حلولٍ عربية!
الحلول العربية واضحة ومعروفة، والرؤية المصرية أكثر وضوحًا وأكثر شفافية.
تنطلق الرؤية المصرية من إقرار حق الشعب الفلسطينى القانونى فى البقاء على أرضه، وفق قرارات الأمم المتحدة، ووفق الشرعية الدولية والقانون.
المسألة ليست «خناقة» على طريقة الأفلام الأمريكية، إنما هى قضية شعب صاحب نضال طويل بمطالب مشروعة، تداولتها منظمات دولية، وصدرت فيها قرارات أممية، ولعبت الولايات المتحدة نفسها فيها دورًا قبل سنوات من وصول ترامب للمكتب البيضاوى فى البيت الأبيض.
لن يمنح التاريخ فرصة لأحد أن يتجاوز عما فات بجرة قلم، وليس متصورًا أن تمنح الأحداث أحدًا فرصة فى إقرار وضع يمحو شعبًا من التاريخ، ويستبدل المواطنين على أرضه بآخرين، ويعيد تشكيل خرائط وطنه على الكيف وعلى الهوى.
الحلول تبدأ من حق الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم، على أراض مملوكة وفق قرارات الأمم المتحدة تطبيقًا لحل الدولتين.
الحقوق الأصيلة لاجدال فيها، والحق أن فلسطين هى وطن الفلسطينيين، ولا وطن آخر لهم، وأن القاهرة لا يمكن أن تسمح بأن تُطرح فى الإطار أفكارٌ أخرى عن أوطانٍ أخرى.