عاجل
الخميس 4 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
اعلان we
البنك الاهلي

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: البحث عن الحب الضائع

محمد سعد عبد اللطيف
محمد سعد عبد اللطيف

عاد أدهم إلى قريته بعد غياب دام أربعين عامًا، بعد إحالته إلى المعاش. لكن القرية لم تعد كما كانت؛ الوجوه تغيرت، والحياة لم تعد هي الحياة التي تركها خلفه حين غادرها مطرودًا. ما زالت الذكريات تطارده، خصوصًا ذلك اليوم الذي ألقى به والده في الترعة أمام أهل القرية أثناء مرور موكب المولد السنوي، عقابًا له على حبه لجارته حنان، الطالبة في كلية الآداب.



 

حبٌّ تحدّاه الزمن

 

نشأ الحب بين أدهم وحنان منذ الطفولة؛ جيرة بريئة، ومذاكرة دروس فوق أسطح المنازل الريفية، ورسائل غرام متبادلة على قش الأرز. كبر الحب بينهما، لكنه ظل أسير العداء العائلي الذي استمر عبر الأجيال.

 

بعد حصولهما على الثانوية العامة، التحقا بجامعة القاهرة، حيث نضجت مشاعرهما بعيدًا عن صراعات القرية. داخل أسوار الجامعة، تحديا الأعراف والتقاليد، ورسمًا معًا قصة حب رقيقة رغم العداء المتوارث بين العائلتين.

 

أنهى أدهم دراسته في كلية الزراعة، بينما حصلت حنان على ليسانس الآداب في الفلسفة. كانا يحلمان بالارتباط رغم الحواجز الاجتماعية، وقرر أدهم التقدم لخطبتها بعد التخرج، متحديًا كل الخلافات. لكنه لم يكن يعلم أن القطار الذي أعادهما إلى القرية، سيحمل في طياته محطة الفراق.

 

القدر القاسي

 

وصل أدهم وحنان إلى القرية وسط زغاريد الفرحة بنجاحهما، حيث تزامن ذلك مع احتفالات المولد. طلب أدهم من والده أن تكون مناسبة خطوبتهما في يوم الاحتفال، لكن الأب وافق بشرط قاسٍ: "إذا رُفضت، سأُلقي بك في الترعة أمام الجميع".

 

ذهب والد أدهم لخطبة حنان، لكن عائلتها رفضت بشدة، ووفى الأب بوعده.. أُلقي بأدهم في الترعة، وشعر بالمهانة والعار أمام أهل القرية. في الليلة ذاتها، وصله خطاب تعيينه كمهندس زراعي في هيئة الإصلاح الزراعي بمحافظة الشرقية. لم يكن أمامه سوى الرحيل بعيدًا عن ذكرياته المؤلمة.

 

حياة جديدة.. لكن!

 

في الغربة، تزوج زواجًا تقليديًا، وأنجب طفلين، لكن الماضي لم يبرح ذاكرته. طلبت زوجته أن يزور أهله ليعرّفهم على أطفالهما، فوافق، لكن الظروف حالت دون ذلك. صدر له قرار ترقية، وانتقل إلى منطقة نائية قرب مطار صان الحجر.

 

وفي أكتوبر 1973، مع اندلاع الحرب، تعرضت المنطقة لقصف إسرائيلي عنيف. في تلك الليلة، وبين دوي القنابل وصراخ المعارك، وضعت زوجته مولودهما الثاني، لكنها لم تنجُ من مضاعفات الولادة، وفارقت الحياة وسط الدمار.

 

سلسلة من الفقد

 

عاش أدهم بعدها في حزن وكآبة، ولم تمر سنوات قليلة حتى جاءه نبأ وفاة والديه في حادث قطار. لم يبقَ له سوى قطعة أرض فضاء تركها له إخوته بعد أن تقاسموا الإرث. مرت السنون، كبر أبناؤه، وسافر ابنه الأكبر في بعثة دراسية إلى ألمانيا، بينما تزوجت ابنته. وجد نفسه وحيدًا، فقرر بيع ممتلكاته، والعودة إلى قريته بعد عقود من الغياب.

 

لقاء بعد أربعين عامًا

 

عند وصوله، بدأ أدهم في التعرف على الأجيال الجديدة، متجنبًا كبار السن الذين قد يتذكرونه. ذهب إلى مكتب البريد لصرف معاشه، وهناك، وسط طابور الانتظار، سمع اسمًا جعل الدم يتجمد في عروقه: "الأستاذة حنان عبد الحفيظ". وقع مغشيًا عليه.

 

استفاق ليجد أمامه حنان... لم تتغير ملامحها كثيرًا، رغم مرور الزمن. أسرعت لإسعافه، وفي لحظة عميقة من الصمت، أدركا أن كلًّا منهما عاش تجربته بطريقته الخاصة.

 

فراق جديد

لم يتزوج أي منهما بعد الفراق، لكن الحياة فصلتهما عن بعض. حنان أصبحت أرملة تعيش مع أختها، بعد أن حرمتها الأيام من الإنجاب. أدهم، الذي ظن أنه نسي، اكتشف أن الذكريات لا تموت، لكنها تتحول إلى فقد يشبه الفطام، حيث يحاول القلب التكيف مع غياب كان جزءًا منه.

 

رافقت حنان أدهم إلى باب منزله، حيث وقف الاثنان في نفس المكان الذي شهد فراقهما الأول قبل أربعين عامًا، على شاطئ الترعة. لم يكن هناك ما يُقال، سوى أن القلوب تدق بسرعة عند لحظة الوداع، وكأنها تريد أن تسرق نبضًا أخيرًا قبل أن تغوص في دوامة الألم من جديد.

 

 محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث مصري

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز