09:26 م - السبت 25 يناير 2025
الدكتور محمد هادي مدير مركز الثقافة الإسلامية بمسجد النور بالعباسية
أكد الدكتور محمد هادي، مدير مركز الثقافة الإسلامية بمسجد النور بالعباسية، أن معجزة الإسراء والمعراج التي أكرم الله بها سيدنا رسول الله ـ ﷺ ـ من القضايا التي احتد النقاش حولها منذ حدوثها إلى يومنا هذا حيث أنكَرها من أدركها من الكفَّار، وورث هذا الإنكارَ عنهم بنو ملَّتهم مِن دُعاة الشّبَه ومثيري الفِتن، حتى سرتِ العدوى إلى بعض المسلمين فأنكَروها، وادَّعوا أنها قصَّة أسطوريّة خرافيَّة، وردُّوها جملة وتفصيلًا، واختلقُوا معاذير لردِّها لم تخرج عن معاذير مَن قبلهم في أغلب أحوالها، إلا في جانبِ ظهور المغالَطة والجهل بالتعبير اللغويّ في القرآن والسنة.
لافتا إلى أن بعض المغالطين يشكك في ثبوت معجزة الإسراء والمعراج، والجزم بوقوعها بالكيفية التي يعتقدها المسلمون، ويرون أنها لا تخرج في مجملها ـ لما فيها من مجاوزة للعقل والواقع المألوف ـ عن أنها رؤية منامية مستدلين على ذلك بقوله عز وجل (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)، ومستدلين أيضا على عدم وقوعها بالروح والجسد بحجة مخالفتها للعلم الحديث: لأنه ثبت عندهم أن الأكسجين ينتهي عند مسافة معيَّنة من البعد من الأرض، وعليه فإن إمكان الصعود إلى السماء السابعة ليس ممكنًا، وهم في هذا يرمون صراحة إلى نفي معجزة الإسراء والمعراج، ضمن منظومة نفي معجزاته ـ ﷺ ـ بغية تجريده من تأييد الله له بها، والخروج به عن مقتضى كونه نبيا، فهؤلاء الذين أغلقت قلوبهم وعقولهم عن التصديق والإيمان بالمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ورسله عندهم إشكالية وهي أنهم يتعاملون مع الوحي بمنطق النِّدِّيَّة والتكافؤ، فلا يقبَل منه أي معلومة ما لم يعرضها على معارفه الخاصَّة، ويرى مدَى انسجامها معها، فإذا لم تنسجم مع معارفه ومعطياته العقليَّة فإنه يردُّها أو يتأوَّلها.
وسرد الدكتور محمد هادي مدير مركز الثقافة الإسلامية بمسجد النور بالعباسية بعض الردود على هولاء في عدة نقاط
أولا: لقد جرت سنة الله أن يؤيد رُسله بمعجزات خارجة عن إطار المعتاد في مجتمعاتهم، لتكون بمثابة التأييد والتصديق والإثبات لدعوى الرُسل عليهم السلام أنهم مبلِّغون عن ربهم، واقتضت حكمته سبحانه أن يكون بعض هذه المعجزات أمورًا حسّيّة، تتعلّق بالزمان الذي بُعث فيه النبي، ومن ذلك معجزتا الإسراء والمعراج الواقعتين لنبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، والمقصود بالإسراء هو السير ليلا من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بفلسطين، قال تعالى:«سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».
والمقصود بالمعراج هو العروج بالنبي ﷺ من المسجد الأقصى إلى السماء الدنيا ثم إلى السماوات العلى، ومنه إلى سدرة المنتهى، وفي ذلك عبّر القرآن الكريم في مفتتح سورة «النّجم» بقوله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى».
وقد تأكد قبول صحة هذه الحادثة ثبوتًا وإيمانًا من خلال ما قرره القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع من يعتدّ بهم من علماء الأمة الإسلامية عبر العصور المتلاحقة.
مؤكد ان إنكار هذه الحادثة افتراءٌ على نصّ القرآن الكريم الذي أثبتها ونسب الفعل بما اقتضاه من قوّةٍ وإعجازٍ إلى الإرادة الإلهية التي لا يعجزها شيء!
حيث إن فاعل الإعجاز في الحادثة هو الله سبحان الذي أسرى بعبده، والعبد هو مجموع الروح والجسد، فالله هو الذي أسرى بعبده صلى الله عليه وسلم، والله خالق الزمان والمكان وقادر سبحانه على طيّهما وتسخيرهما لعباده، وليس ذلك بعزيز عليه!
ويشير هادي الي انه لو كانت حادثتي الإسراء والمعراج مجرد رؤيا منامية لكان أمر التسبيح في قوله (سبحان الذي أسرى بعبده) لا قيمة له، فالتسبيح يكون عند الأمور العظيمة، وكونها رؤيا منامية يتعارض مع كونها أمرًا عظيمًا.
أما الرد الثالث فتَمثل في انه لو كانت رؤيا منامية كذلك فما كان لتكذيب قريش لها أي معنى، لما قص رسول الله خبر الإسراء على جمع من قريش أعظموا ذلك الإسراء وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجباً - فلو كان الإسراء رؤيا منامية لما كانت مستغربة ولما أحدثت تلك الضجة وكذبه المسلمون اللهم إلا من كان منهم قوي العقيدة ثابت الإيمان - قال مطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمراً يسيراً غير قولك اليوم، هو يشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً ومنحدراً شهراً، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة؟ واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته أنا أشهد أنه صادق، وفي رواية: فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة وروحة، فقال مطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: صف لي يا رسول الله فإني قد جئته، فجاءه جبريل بصورته ومثاله فجعل يقول باب منه في موضع كذا وباب منه في موضع كذا، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه.
فاستنكار قريش لكلام رسول الله ـ ﷺ ـ يؤيّد أن هذا السرى كان بالجسم لا بالروح ؛ إذ الرؤيا الحلمية لا يمكن أن يستنكرها عاقل.
قال الإمام القرطبي: “ولو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل: بعبده. وقوله: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} يدلّ على ذلك. ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدِّثِ الناس فيكذِّبوك، ولا فُضِّل أبو بكر بالتَّصديق، ولما أمكن قريشًا التشنيع والتكذيب، وقد كذَّبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر
فأي اعتراض من أي إنسان عاقل كان سيعترض على النبي ﷺ لو أنها كانت رؤيا منامية!!.
وأما إنكار المشككين للمعراج بحجة مخالفته للعلم الحديث وأن الأكسجين ينتهي عند مسافة معيَّنة من البعد من الأرض، وعليه فإن إمكان الصعود إلى السماء السابعة ليس ممكنًا. هذه شبهة لا تنهض أيضا ، فالمعجزة في أصلها مخالفة للعادة وخارقة للعادة؛ ولهذا سمِّيت معجزة، فمحاولة محاكمتها إلى العادَة والحسّ هي فرع إنكار المعجزة، وقد وُجِدت في الكون أحداثٌ خالفت العادَة؛ لأن قدرةَ الله سبحانه وتعالى لا تحكُمها العادة، ولا العقل، فممَّا خالف العادة معجزة ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، فقد وُلد من دون أبٍ كما قال الله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 47]. وكذلك إحياؤه للأموات وإبراؤه للأكمه والأ= الرقبرص، كل هذه معجزاتٌ خالفت العادَةَ، قال تعالى: {إَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 49].
ومن ناحية أخرى فإن مخالفةَ العادة مسألةٌ نسبيَّة تابعة لما يتمتَّع به الإنسان من قوى خارجيَّة وباطنية، وما يتوفَّر لديه من علوم، فلكلّ شخصٍ عادةٌ تعدّ مخالفتها ضربًا من الخيال، وذلك وفقًا لإمكانياته وعلومه المتوفرة لديه، فقد أنكر كفَّار قريش انطلاقًا من إمكانياتهم المعرفية وطاقتهم العقلية إمكانية الوصول إلى بيت المقدس والرجوع إلى مكة في وقتٍ وجيز، وكان هذا في ذلك الوقتِ مخالفًا للعادة، أما في عالم الطيران والسرعة اليوم فإنَّ مخالفة العقل ومكابرته هي في إنكارِ ذلك. ومما يعين على مخالفة العادة مخالفةً تبهر العقل وتعجِزه التوكلُ على الله والاعتماد عليه، فالنَّبيُّ ـ ﷺ ـ مؤيَّد بمعجزة وقدرة من الله، ولم يدَّع أن ذلك من صُنع نفسه وإنما هو من قدرة الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة لا تكون من فعل الرسول، وإنما هي من فعل الله فقوانين الحياة والمادةِ لا تحدُّ قدرة الله عز وجل، ولا تلزمه بشيء؛ إذ هو خالق الحياة والمادة، وهو المتصرِّف في الكون لا شريكَ له، يؤيِّد من يشاء بما يشاء، فمحاولة إخضاع المعجزة لحدود العقل والعادة هو تحكُّم في قدرة الله سبحانه وتعالى، وتحديد لها بما لا يمكن أن يحدَّها وهو قوانين مخلوقاته ومملوكاته سبحانه وتعالى.
وأخيرًا أقول لهؤلاء الذين ضاقت عقولهم وقلوبهم عن تقبل وقوع وحدوث معجزة الإسراء والمعراج لرسول الله ـ ﷺ ـ إن قدرة الله تعالى التي حفظت إبراهيم عليه السلام من الحرق، وأنبعت الماء من بين أصابع إسماعيل عليه السلام، وشقت البحر لموسى عليه السلام وفلقت له الحجر، وأنزلت المائدة على عيسى عليه السلام، وتهيّأ له من الإنعام ما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، هي قدرة الله سبحان التي شقّت القمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأسرت به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرجت به إلى السماوات العلى، ليرى من آيات ربه الكبرى ما رأى. وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.