د. حسام عطا
خبيئة الفنون الجميلة المصرية.. خبيئة بيكار وكنوز أخرى
في أمسية دافئة وبحضور رفيع المستوى لكبار الفنانين التشكيليين في مصر وعدد من الشعراء والكتاب والصحفيين وصناع السينما التسجيلية، تمتعت بحضور فعالية "خبيئة بيكار" وفيها إعادة لجوهر ومعنى الثقافة المصرية كما سعينا إليها العمر الشاق والمشوار الصعب الملتزم بجوهر الإبداع، ووظيفة عمل الفنان والمثقف المصري.
ليلة استيعادية لمصر النصف الثاني من القرن العشرين، تذكرنا بذلك السمو الإبداعي والإخلاص المهني والالتزام الاجتماعي والسعى نحو تحسين وجه الحياة، والوجه المشرق لمصر في تعاونها الثقافي مع العالم، ليلة دافئة دفء البدايات الحالمة التي جذبتنا نحو النـــــور.
إنها استعادة شخصية لذكريات خاصة، إذا أنني قد كنت متعلقاً برسومات بيكار منذ طفولتي، والتي كان ينشرها في جريدة الأخبار، لم أكن أعرف لماذا؟ لكن ما أثار شغفي به ومخيلة الطفل الذي كان في مسقط رأسي أسيوط، تلك الحكايات عن زياراته المتكررة لأسيوط، إذ يتردد أنه من أسرة تعود أصولها إلى أسيوط القديمة، وهو الأمر الذي يخالف كل ما هو موثق عن أنه مواليد حي الأنفوشى بالإسكندرية. بيكار هذا الذي رأيته ذات مرة يجالس العم حمدان أشهر البدالين بأسيوط في ميدان المحطة. تذكرت ذلك، وجددت الذكرى واحدة من لوحاته الرائعة رسم فيها جبانة أسيوط التي تقع غرب النيل في حضن الجبل هناك، إنها هي بلا شك، وقد منحها طابعا بسيطاً يربطها بمقابر قدماء المصريين، طابعاً جمالياً منظماً يشبه الواقع لكنه واقع متخيل جديد ربما يكون هو ذلك الذي يجب أن يكون. فسألت المهندس المعماري المصري اللامع حمدي السطوحي، هل بيكار من أسيوط، ولماذا ما نعرفه عنه أنه من مواليد الإسكندرية، فأكد لي أن أصوله حـقـاً من هناك من صعيد مصر. وكذلك أكد لي المنشد الديني المبدع محمود ياسين التهامي أبن شيخ المنشدين العبقري الذي لا يتكرر الشيخ ياسين التهامي، بلبل الصعيد والغناء الشعبي الجنوبي حيث الملايين البسطاء والذين لا يعرفون في معظمهم القراءة والكتابة، يحفظون أغنيات التهامي والتي هي في معظمها من أشعار سلطان العاشقين أبن الفارض، وهي فصيحة بليغة مزدانة بكل بدائع شعر الفصحي. فقلت في نفسي، وبيكار أيضا يحب رسوماته الملايين الذين حظوا بالقدرة على مطالعة أخبار اليوم بشق الأنفس، وهو الذين تعلموا القراءة وقليل من الكتابة بالصبر والمصادفة من بين استراحاتهم القليلة أثناء عملهم الشاق، كانوا يطالعون رسومات حسين بيكار بدهشة وإنجذاب، بينما لم تزل أرجلهم في طين الأرض السمراء وماء النيل المقدس. فما هو ذلك السر المشترك الذي جذب ذلك الطفل الذي كنته لحسين بيكار وخطوطه الرائعة، ولذلك الطرب والرقص الإيمائي على إيقاع دق الأكف، مع صوت الشيخ ياسين التهامي. عشت في دفء الذكرى، بينما كنت أشاهد خبيئة بيكار، وهي مجموعة من أعماله التي لم تعرض من قبل ويعرضها متحف الفن الحديث، ثم اكتملت المتعة بما عرضه المهندس حمدي السطوحي، وهو معماري مصري من محبي بيكار والأثار المصرية القديمة، وقد قدم عرضاً شيقاً حول الحالة الملهمة لرسوم بيكار، والتي سجلت عملية نقل معبد "أبو سمبل" لمكانه الجديد، والتي قامت بها مصر ومنظمة اليونسكو في ستينيات القرن العشرين المنقضي. ثم شاهدت عرض الفيلم السينمائي "أبو سمبل" وهو في بناءه الأساسي يقوم على رسومات ولوحات بيكار، وذلك في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية.
إنه فيلم وثائقي تسجيلي بالمعنى الإبداعي للسينما التسجيلية، أسم الفيلم "العجيبة الثامنة" وهو الفيلم الذي أنتجته المؤسسة المصرية العامة للسينما بتفكير من د. ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري المؤسس الرائد والذي لا تزال إنجازاته وأفكاره وإرادته الثقافية الفاعلة حاضرة حتي الآن في عالمنا المعاصر، والفيلم من إخراج النيوزلندي الكندي المختص في السينما التسجيلية جون فيينى. وهو الذي كتب السيناريو عبر إلهام لوحات بيكار الثمانين له، والتي سجلت عملية نقل معبد أبو سمبــــــــــل الشهيـــــــــرة. ويظهر في سيناريو الفيلم تلك البساطة وذلك التتابع الإيقاعي المنتظم بهدوء، القائم على رصد الكاميرا لإبداعات بيكار، رصد تدعمه الموسيقى الهادئة التي تعتمد على صوت الغناء الفردي لصوت مصري من أهل النوبة، وهو يغني للنهار كي يأتي ولشمس الصباح كي تشرق. وومضات تعتمد الغناء الأوبرالي والموسيقي السيمفونية لتردد أسم "أبو سمبل" في فخامة مؤكدة ومركبة، إلا أنها ومضات، لكن الصوت الفردي الغنائي للمصري النوبي هو الموسيقي التصويرية الأساسية للفيلم. وذلك الإيقاع العام الذي يحكم الفيلم هو إيقاع اللقطة المكبرة لكل لوحات بيكار، وفيها يسجل حسين بيكار قدماء المصريين بلباسهم الشهير المصري القديم. إنها ملابسهم البيضاء مع سمرة بشرتهم تضئ المنظر العام، والذي هو لوحة من لوحات الفن المصري القديم في قالب معاصر مبتكر. وهي لوحات تشكيلية ذات تصميم فريد، يستلهم تلك التجريدية الملخصة للواقع بطابع جمالي يقوم على التصميم المتوازن، وعلى تكرار الخطوط والأشكال والوحدات بذات الأسلوب. وهو على ما يتيح ذلك النمط الإبداعي من علامة مميزة، والذي هو سمة أصيلة لحسين بيكار ولبصمته الخاصة في الفن التشكيلي المعاصر، إلا أنها خطوط وطريقة تقوم أيضاً بتوزيع مساحات اللون مع مساحات الفراغ في اللوحة، حيث يقوم الإختزال البسيط بمنح اللوحة تكويناً يعبر عن النظام الجميل الذي يحافظ على الفراغ العام ويحرص على عدم إزدحامه بالتفاصيل. كما أن الفيلم وهو يحتفي بالمعبد وعملية نقله العبقرية، فهو لا ينسى ولع مخرجه الأصلي بالماء المقدس ونهر النيل، وهو ما جاء حاضرا في فيلمه الأول ينابيع الشمس، والذي أخرجه جون فيني عن النيل، وأنتجته أيضاً المؤسسة المصرية العامة للسينما عام 1963، وكما أعطى ماريو ناشمبيني بالموسيقى التي وضعها لفيلم "العجبية الثامنة" درسا في عمق البساطة، فإن اللقطات التسجيلية لعملية نقل المعبد وخاصة تلك التي تصور نقل وجه رمسيس، ثم تفكيك المعبد وإعادة تركيبه بما فيه الجبل، الذي تم إنشاء المعبد كجزء منه، ليهديه رمسيس المقاتل المحب لزوجته الجميلة نفرتاري، فقد أعطى الفليم كله درساً في عمق البساطــــــــة. أما جبل "أبو سمبل" الشهير فقد صار أسمه الأكثر رقة ورهافة هو جبل الماء، كما أطلق عليه فيني وبيكار. أما عن الرسوم التخطيطية لبيكار ولوحاته النادرة التي تستمر الآن معروضة بمتحف الفن الحديث، فيتأكد فيها ذات الأسلوب المبتكر وتظهر في بعضها وأبرزها الصورة الشخصية للفنان مقدرة خاصة على التعبير عن الذات عبر ملامح الوجه وعمقه اللوني وإنسجامه بذات التماثل القائم على الإتزان في التصميم، وهو ذلك الطابع الشخصي لبيكار. كل هذه الطاقة الإيجابية والجمالية والمعرفية تم إطلاقها مساء الثلاثاء 21 يناير 2025، في باكورة فعاليات قطاع الفنون التشكيلية وصندوق التنمية الثقافية ودار الأوبرا المصرية في العام الجديد، في تعاون مشترك بين مؤسسات وزارة الثقافة حقق إنجازا ثقافيا متفردا، وهو التعاون الضروري والمؤسسي الذي نتمناه لمستقبل فعاليات وزارة الثقافة في الفترة القادمة، وهو ايضاً إختيار صحيح لوزير الثقافة د. أحمد فؤاد هنو، نتمناه أن يمتد للتعاون مع كل المؤسسات ذات الصلة من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. وهي الفعالية المختلفة التي تضاف في رصيد د. وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية، والمهندس حمدي السطوحي رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية، وما بقى حقا ملاحظتي عن غياب كتيب مطبوع لهذه اللوحات الجديدة وتخطيطات بيكار، التي يمكن أن تكون مشاريعاً قابلة للتنفيذ بذات أسلوبه المتفرد في كلية الفنون الجميلة المصرية العريقة، وكل ذلك الحكي التاريخي النادر عن السد العالي واليونسكو ووحدة الشعوب في الحفاظ على الإرث الإنساني، والمساهمة العالمية في إنقاذ "أبو سمبل".
تاريخ كان يجب أن يكتب في كتيب صغير مع صور اللوحات الجديدة ولوحات فيلم العجيبة الثامنة البديعة. أما حقا ما يؤكد حيوية المثقفين المصريين والكتاب والفنانين فهو ذلك الحضور الكبير والذي يؤكد أن الاعتراف بالفعل الثقافي يأتي من جودة الفعل الإبداعي ذاته، وهي جودة وعبقرية إبداع حسين بيكار.