فن الدبلوماسية .. القيادة بين التكريم والتوبيخ
تَعدُّ المدارس والكُليَّات المُتخصِّصة بالعلوم الإداريَّة الحديثة والقيادة الرَّشيقة ـ على مختلف جنسيَّاتها ـ أنَّ الوصولَ إلى القيادة النموذجيَّة يَجِبُ المرور من خلال أدواتِ وسِماتِ وصِفاتِ التَّكريم بكُلِّ أنواعِه، وكذلك التَّوبيخ بجميعِ درجاتِه.
ومن هذا المبدأ، وظَّفتِ المدارسُ الدبلوماسيَّة، وخصوصًا الغربيَّة مِنْها، مبدأ التَّكريم والتَّوبيخ على جميع الدَّرَجات الدبلوماسيَّة العاملة في البعثات الخارجيَّة أو مركز الوزارة أو الدَّولة؛ لِمَا له من أهميَّةٍ كبيرة للوصولِ إلى الأهدافِ المرسومة من قِبَلِ هرَمِ الوزارة؛ لأنَّ التَّكريمَ سوف يدفعُ الدبلوماسي إلى الطُّموح إلى ما هو أعلى من الوظيفة الَّتي يعمل بها. وتذهبُ بعض الدّوَل، وخصوصًا وزارة الخارجيَّة في دَولة (أ) إلى أنَّ رسالةَ الشُّكر للمُوَظَّف المُعيَّن تُعادل ستَّةَ أشْهُرٍ للتَّرقية الموعودة، إذ هناك خِطاب شُكر من هرَمِ الدَّولة يُمكِن يحصل على قدم بالتَّرقية إلى فترة سنَة، وهذا سوف يعطي دعمًا معنويًّا كبيرًا للمُوَظَّف من خلال اختزال الوقت وصرفيَّات الموارد الماليَّة في تحقيق استراتيجيَّة الأهداف لها، بالإضافة إلى أنَّه سوف يُشعل نارَ الغَيرة والتَّنافس لِبقيَّةِ الموظَّفِين في نَفْس المركب.
البعثة الدبلوماسيَّة بالخارج تُعَدُّ هي الواجهة الحقيقيَّة للبلدِ فإن لم يكُنْ هناك مبدأ التَّكريم والتَّوبيخ سوف يكُونُ العمل روتينيًّا بلا فائدةٍ ولا إنتاجيَّة ترجو مِنْه الدَّولة، بل وسوف يكُونُ عالةً على البلدِ؛ لِكَونِ هناك صرفيَّات بالعملة الصَّعبة تُصرف لهذه البعثة دُونَ أيِّ إنتاجيَّة مميّزة بسبب بُعدها كثيرًا عن مبادئ الإدارة الحديثة والقيادة النموذجيَّة.
تتفاخر المدارس الدبلوماسيَّة، وخصوصًا الغربيَّة مِنْها، على ضرورة دخول وإشراك جميع الكادر الدبلوماسي بحلقات ومحاضرات سِمات القيادة الرَّشيقة، وأهمُّ مفرداتها هي: (الثِّقة الكاملة بالنَّفْس، الذَّكاء العاطفي، الاهتمام بالقرارات الصَّادرة من عُمق الخبرة، القدرة على حلِّ المعضلات وتكييف الصَّلاحيَّات والقانون للأهداف الاستراتيجيَّة، الرُّؤية الاستراتيجيَّة للموارد الماليَّة والبَشَريَّة، القدرة على اختيار فريق العمل المُتجانس، وضوح الرُّؤية المستقبليَّة، وأخيرًا مبدأ التَّكريم والتَّوبيخ موضوع مقالِنا لهذا اليوم.
يُعَدُّ مبدأ التَّكريم للموَظَّفِين بمختلف درجاتِهم ووظائفهم حافزًا قويًّا للعملِ والإنجاز والكفاءة في تنفيذ المهام بأفضلِ وأعلى درجات المهنيَّة، ويُعطي دفعةً قويَّة من الطَّاقةِ الإيجابيَّة للشَّخص للإبداع والتَّفاني، ويكُونُ قدوةً لزملائِه في العمل، والبعض يتفاخرُ به أمام الجميع.. أقرب مثال على مبدأ التَّكريم والَّذي يُعَدُّ الحجرَ الأساسَ للقيادةِ النموذجيَّة، ما تفضَّل به والدنا جلالة السُّلطان المُفدَّى هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ بتكريمِ عددٍ من أصحاب السُّموِّ والمعالي بمناسبةِ العيدِ الوطني الـ(54) المَجيد نظرًا لكفاءتهم في إنتاجيَّة العمل خلال الفترة الماضية.
إنَّ هذا التَّكريم يُعطي إشارةً واضحة على اهتمامِ القيادة العُمانيَّة بذلك، وكُلُّنا يتذكَّر ما قامتْ به أُختنا الكبيرة السَّيدة الجليلة عهد بنت عبد الله بن حمد البوسعيديَّة حرم مولانا ـ حفظها الله ـ بتكريم عددٍ من الشَّخصيَّات النِّسائيَّة العُمانيَّة بالأعوام الماضية بتكريمهنَّ بمناسبةِ يومِ المرأة العُمانيَّة، هذا هو فعلًا الطَّريق النموذجي لشحنِ الهِمَم لِتَحقيقِ الأهداف المُرجوَّة ضِمْن استراتيجيَّة الدَّولة. في كثيرٍ من الدّوَل، وخصوصًا من العالَم الثَّالث، لم نسمعْ أنَّ الوزيرَ الفلاني قامَ بعملِ جردٍ وتقييم للموَظَّفِين المُجيدِين في عملهم، وخصوصًا الَّذين حصلوا على شهادةٍ جامعيَّة عُليا بتكريمهم بمكافأة ماليَّة أو خِطاب شُكرٍ يُحفَظ في ملفِّه الخاصِّ، وبالتَّالي تُعَدُّ له قدمًا لمدَّة ستَّةِ أشْهُر لغرضِ التَّرقية.. وغيرها من الحوافز الوظيفيَّة الَّتي تُحفِّز الآخرين على الإبداع وإنجاز الأعمال بكفاءةٍ عالية. وتذهبُ بعضُ المدارسِ المتميِّزة بفنِّ الدبلوماسيَّة والَّتي خرَّجَتْ كثيرًا من الكوادر الاحترافيَّة بفنِّ القيادة النموذجيَّة إلى الاهتمامِ بمبدأ التَّكريم والتَّوبيخ. فكان لدَيْنا سفير مُحنَّك وحِرفي كفؤ، كان يكتُب ويُحرِّر خِطاب الشُّكر بِدُونِ اِسْمِ المُوظَّفِ ويُعلِّقه في لوحةِ إعلاناتِ السّفارة الدَّاخليَّة، ويطلبُ من جميع الموَظَّفِين ليس العمل والالتزام بأوقاتِ الدَّوام، وإنَّما كان يطلبُ مِنْهم الإبداعَ اليومي في عملهم، وإنجازَ ما بِذِمَّتهم بكفاءةٍ مميّزة تجعلهم يظفرون بخِطاب الشُّكر (والَّذي يحتوي على حوافزَ مُعيَّنة، مِنْها تمديد فترة بعثته لمدَّة (3) أشْهُر إضافيَّة) ممَّا يجعلُ الجميع في سباق التَّميُّز الوظيفي بسببِ مبدأ التَّكريم.
إنَّ شُحَّة هذا المبدأ وعدم تطبيقِه يجعلُ الدَّائرة أو الوزارة تَسيرُ بوتيرةٍ روتينيَّةٍ بائسة، وسوف يُصيب الإحباط أغْلَبَ الموَظَّفِين لِيتحوَّلوا بذلك إلى عبءٍ إداري ومالي على ميزانيَّة الدَّولة. الكُليَّات البريطانيَّة المُتخصِّصة بفنِّ الدبلوماسيَّة والعلاقات العامَّة والإدارة ترفعُ شعار (السّفارة بسفيرها)، بمعنى إذا كان السَّفير مهنيًّا ومحنَّكًا ودبلوماسيًّا؛ أي تدرَّجَ من أقلِّ الدَّرَجات إلى أنْ وصلَ إلى درجةِ السَّفير، فهذا لدَيْه الخبرة الكافية لإدارةِ السّفارة وعملها وأهدافها بأفضل ما يكُونُ، ويضعُ نصبَ عَيْنَيْه مبدأ التَّكريم والتَّوبيخ لِيُحقِّقَ أهدافَ بلدِه بكُلِّ إتقانٍ وإخلاص.
دبلوماسي سابق
والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت