أيمن عبد المجيد
الصين تواجه الهيمنة الأمريكية بـالحزام والطريق وواشنطن تردع بـ ممر الهند- الشرق -أوروبا ونتنياهو يخلى الطريق
حرب «الحرير» و«البخور».. صراع إعادة تشكيل النظام الدولى وخريطته الجيوسياسية
ليس كل الظن إثمًا، لكن مخطئ من يعتقد أن ما يحدث على الساحة الدولية عامة ومنطقة الشرق الأوسط خاصة، محض صدفة، أو لتحقيق الأهداف المعلنة، هذا هو الظن الآثم يقينًا، بشهادة التاريخ ودروس أحداثه وحوادثه، الانتصارات والانكسارات، فهو شاهد عدل لا يعرف المجاملات.
تلاطم الصراعات الدولية المدمرة، انعكاس لتصاعد حالة التنافس الحاد بين الأقطاب الأكثر قدرة على إعادة تشكيل النظام الدولى، ومساعى كل منها لرسم خريطة جيوسياسية جديدة تحقق أهدافه ومصالحه فى الهيمنة على العالم اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.
هذا الصراع بين القوى العظمى ليس وليد اليوم، بل له جذوره التاريخية، وقواعده الأبدية، وآلياته الثابت منها والمتغير، وكثيرًا ما تبدلت القوى والإمبراطوريات، وتوارثت الاستراتيجيات، والتكتيكات والوسائل.
كشفت أحدث وثيقة لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكى صادرة فى أكتوبر 2022، التي قدمها بايدن للكونجرس الأمريكى بعد 21 شهرًا من ولايته، أن الصين المنافس الوحيد الذي لديه نية وقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولى.
وخطورة الصين وفق الاستراتيجية الأمريكية أنها المنافس الوحيد الذي يمتلك الموارد الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لتحقيق هدف إعادة تشكيل النظام الدولى الجديد، مؤكدة أن العقد الحالى حاسم فى المواجهة، التي ستحدد موقع أمريكا لفترة زمنية طويلة.
والمنافسة الاستراتيجية لتشكيل النظام الدولى الجديد، رأس حربتها واشنطن والصين، وحلفاؤهما الفاعلون، فى صراع الاستقطاب الدولى، فواشنطن تستند إلى حلف الناتو، والاتحاد الأوروبى، وذراعها فى المنطقة الكيان الصهيونى المسمى إسرائيل.
فيما تعد روسيا «التحدى الاستراتيجى الأكثر إلحاحًا الذي يواجه الرؤية الأمريكية»، بحسب استراتيجيتها للأمن القومى، فقد برر بايدن الذي كتب مقدمة الوثيقة ذلك بما وصفه «انتهاك روسيا لقوانين النظام الدولى بحربها فى أوكرانيا».
اللافت أنه لم يمض عام حتى كان الكيان الصهيونى يرتكب جرائم إبادة جماعية فى قطاع غزة برعاية وتمويل وتسليح أمريكى، منتهكًا جميع الأعراف والمواثيق والقوانين التي وضعها النظام الدولى، ولم ترى أمريكا ما يرتكبه الاحتلال انتهاكًا لقوانين النظام الدولى.
فى أكتوبر من العام ذاته 2022، أعلن الحزب الشيوعى الصينى، وثيقة «تقرير العمل»، التي تحدد كل خمس سنوات التوجهات الرئيسية للحزب الحاكم، مؤكدة استهداف فرض حضور الصين كمنافس جيوسياسى دولى فى مواجهة الهيمنة الأمريكية.
وفى سبتمبر من ذات العام 2022، أعلن بوتين عقيدة سياسية جديدة، تؤكد أن روسيا ماضية بشكل استراتيجى فى توسيع نفوذها الدولى، والعمل على تقويض نظام القطب الواحد القائم على الهيمنة الغربية، وخلق نظام عالمى متعدد الأقطاب، تكون روسيا فيه قطبًا عالميًا فاعلًا مؤثرًا.
وفى ظل هذا الصراع، معلن الأهداف، تتنوع الأدوات والأساليب الهجومية والدفاعية، بحروب أسلحتها هجين، بين الاقتصادى والعسكرى والأيديولوجى والوكلاء، المستخدمين لأهداف الاستنزاف طويل المدى، استراتيجيات هجومية ودفاعية متكاملة.
فكل طرف يعمل على إقناع خصمه، أن تكاليف النشاط العدائى، فى نطاق جغرافى أو هدف استراتيجى، سيواجهه الطرف الآخر برد فعل فى نطاقات وساحات متعددة تجعل التكاليف تفوق الفوائد.
الأمثلة التطبيقية، لذلك الصراع المحتدم لإعادة تشكيل النظام العالمى الجديد، بالخارطة الجيوسياسية وتوازنات القوى، كثيرة، منها حرب الاستنزاف الأمريكية الأوروبية الروسية، عبر الوكيل الأوكرانى.
وحرب الإبادة الجماعية التي ترتكب فى قطاع غزة لتفريغه من سكانه، تمهيدًا لتنفيذ طريق «البخور»، فى مواجهة مشروع «طريق الحرير»، فى ساحة الصراع الاقتصادى الجيوسياسى.
وتكتل «بريكس» والأسلحة النقدية، فى مواجهة هيمنة الدولار، والهيمنة على مؤسسات التمويل بـ«التبادل التجاري بالعملات المحلية».
عودة إلى دروس التاريخ
يؤكد التاريخ أن «الحرب بالوكالة»، و«الدولة المُعيلة»، ولدت من رحم الاحتلال الفرنسى للشرق الأوسط، فى عهد ازدهار الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت العسكرية.
فمع حملته على مصر وسوريا ١٧٩٨، سعى نابليون لخلق كيان موالٍ للإمبراطورية الفرنسية، يحمى مصالحها فى الشرق الأوسط، وفى القلب منها طرق تجارتها إلى الهند و«المنهوبات» فى أفريقيا وآسيا التي سمّوها «المستعمرات»، فى معارك المصطلحات لاحتلال الأذهان قبل الأوطان.
كان اليهود شتاتًا حول العالم، يرتكز حينها ٩٠٪ منهم على تخوم روسيا وبولندا، تخشى أوروبا تزايد هجرتهم من الشرق إلى الغرب، بما يحدثونه من قلاقل ومؤامرات وصراعات.
تولدت فى ذهن نابليون فكرة توليف المصالح القومية الفرنسية، والاستعمارية فى الشرق، مع استثمار اليهود، فوجد فيهم الصلاحية ليكونوا هم تلك المليشيات التي تغرس على حدود مصر لتفصل بين القارة الأفريقية وآسيا، وتعزل مصر عن الامتداد البرى للشام، مستفيدًا من أساطيرهم الدينية وحلم ما سموه العودة لفلسطين.
مع دخول نابليون مصر ١٧٩٨ وجه نداء إلى يهود العالم: «من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية فى أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين: أيها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه وجوده القومى وإن كانت قد سلبته أرض أجداده فقط».
وفى ١٨٠٧ عقد نابليون مجمعًا يهوديًا «سانهروان»، يجمع الحاخامات وقيادات طوائف اليهود حول العالم، تحت شعار «لم شمل الأمة اليهودية» فصدر القرار رقم ٣ عن مجمعهم الأول: «إيقاظ وعى اليهود حول العالم إلى حاجتهم إلى التدريب العسكرى لكى يتمكنوا من أداء واجبهم المُقدس الذي يحتاج إليه دينهم»!
ورغم هزيمة نابليون فى مصر، إلا أنه وضع استراتيجية صناعة «المليشيات»، وجعل من فرنسا «دولة مُعيلة»، تستهدف إمداد وإعداد ودعم الصهاينة لخلق كيان معادٍ لدول المنطقة موالٍ لقوى الاحتلال، يؤدى أدوارًا وظيفية لصالحه.
فشلت الحملة الفرنسية، وقوضت الإمبراطورية بعد أن هزمتها ألمانيا بقيادة بسمارك، وتحطمت قوة باريس فى معركة الكرم، وباتت مصر تحت حكم محمد على باشا منذ العام 1805 وتنامت قوة مصر العسكرية والاقتصادية، وتوسعت خارج حدودها.
إلا أن القوى الاستعمارية واجهت تنامى القوة المصرية، ليبلغ الصراع ذروته فى معركة «قونية»، بالبلقان ١٨٣٩ بتحالف بريطانى فرنسى تركى، لتدمير الأسطول المصري، تبعها توقيع مرسوم لندن ١٨٤٠، لحصر النفوذ المصري داخل حدود الدولة.
لم يفوت الاحتلال البريطانى تلك الفرصة، استعدى استراتيجية نابليون وخاطب السلطان العثمانى، مطالبًا منح اليهود موافقة الهجرة إلى فلسطين «لتشكيل درع بشرى فى مواجهة محمد على وأمثاله من الطامحين».
وفى مذكرة ١٧ فبراير ١٨٤١ أعلن رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون أن «بريطانيا تعتبر نفسها مسؤولة عن مشروع توطين اليهود فى فلسطين».
فى ١٩٠٧ شكل هنرى كامبل رئيس وزراء بريطانيا لجنة لاقتراح الوسائل والتدابير التي تحافظ بها الإمبراطورية البريطانية العظمى فى آسيا وأفريقيا على بسط نفوذها فى البلدان التي تسيطر عليها مع تنامى حركات التحرر.
كانت مصر أهم الدول التي تقاوم المُحتل، وأهم المصالح البريطانية قناة السويس التي تربط مستعمراته وتضمن تجارتها بين الشرق والغرب، فجاء تقرير اللجنة مؤكدًا ضرورة تشكيل حاجز بشرى قوى فى المنطقة على مقربة من قناة السويس، يكون صديقًا لبريطانيا وعدوًا فى الوقت ذاته لسكان المنطقة، لتنفيذ مهمة الفصل بين الجزءين الأفريقى والآسيوى من الوطن العربى، ويقطع الامتداد البرى بين مصر والشام.
أهم أهداف الحاجز مقاومة حركات التحرر، والعمل على إضعاف الدول وتجزئتها، وإبقائها ضعيفة غارقة فى الصراعات والتفكك والجهل.
وهذا ما يقوم به الكيان الصهيونى فعليًا، عبر استنزاف الدول العربية فى حروب، وخدمة مصالح القوى العظمى «المُعيلة»، التي توفر له الدعم السياسى والإمداد اللوجستى اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.
ومع بزوغ نجم أمريكا قطبًا دوليًا مهيمنًا فى النظام العالمى الجديد، ورث الاستراتيجية، ولعب دور «الدولة المعيلة»، لمليشيات الكيان الصهيونى، التي أعلنت نفسها دولة قبل يوم من انتهاء الانتداب البريطانى بفلسطين ١٩٤٨.
ولعل ذلك يؤكده ما قاله السيناتور الأمريكى جو بايدن 1986: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا خلقها لحماية المصالح الأمريكية فى المنطقة، دعمنا لها أهم استثمار أمريكى فى المنطقة».. وكرر وهو رئيس مع بدء العدوان على غزة: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها».
حرب الطرق.. «الحرير» و«البخور»
إذن الكيان الصهيونى مليشيات مسلحة نشأت بتوافق بين مؤسسى الحركة وقوى الاستعمار، وتتوارث القوى الغربية المهيمنة عالميًا تلك المصالح، لأداء دور وظيفى، وتحظى بموجبه باعتراف الغرب وحمايته.
فما هو الدور الآن المنوط بها تنفيذه، فى معركة الصراع «الصينى-الروسى» لإعادة تشكيل النظام الدولى فى مواجهة «أمريكا- الغرب»؟
الإجابة تكمن فى الممرات التجارية الدولية، وضمانات حمايتها، ففى عام ٢٠١٣ أطلقت الصين مبادرة «الحزام والطريق» التي تهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير وربط الصين بالعالم بطرق برية وبحرية وموانئ وسكك حديدية، تشارك فيها ١٢٣ دولة، طريق تجارة لا يخضع لهيمنة أمريكا.
وهذا الطريق يعبر إلى أفريقيا عبر قناة السويس ومحورى التنمية على ضفتيها، ويعزز من نفوذ الصين السياسى وقدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية فى مواجهة الهيمنة الأمريكية.
فى المقابل، أعلنت واشنطن ٢٠٢٢ توقيع مذكرة تفاهم مع الهند، لتدشين طريق اقتصادى «ممر اقتصادى يربط الهند عبر الشرق الأوسط بأوروبا»، لإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية بتوفير طريق «البخور»، بديلًا عن طريق «الحرير» الصينى، لإحباط التحرك الصينى.
الأهم فى ذلك أن الطريق الأمريكى الهندى، يمر من إيلات إلى صحراء النقب عبر قطاع غزة، إلى خليج العقبة ومنها عبر الخليج العربى إلى الهند.
وهذا هو الهدف من حرب الإبادة فى قطاع غزة، وتجويع أهلها والتهجير القسرى للفلسطينيين، تمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي يمثل أداة فى صراع إعادة تشكيل النظام الدولى ورسم خريطة جيوسياسية جديدة تحكم توازنات القوى الدولية.
هذا الطريق يتولى تأمينه المليشيات الصهيونية، لتواصل دورها الوظيفى مع مكاسب اقتصادية، لذا تمول أمريكا والغرب حرب الاحتلال، بهدف القضاء على «الفاعلين غير الحكوميين»، المرتبطين بمحور إيران وحلفائها الروس، القضاء على حماس وحزب الله، للتخلص من أى قوى عسكرية فاعلة تهدد مشروعهم المرتقب.
مصر ومواقفها الراسخة
فى ظل كل هذه الصراعات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، تنتهج مصر سياسة التوازن الاستراتيجى والثبات على المواقف القومية.
تدعم حق الشعب الفلسطينى فى دولته المستقلة على حدود ٤ يونيه ١٩٦7، وعاصمتها القدس، وترى فى ظل الوضع القائم والدعم من الدول «المعيلة للاحتلال الإسرائيلى»، لا سلام فى المنطقة إلا بخيار حل الدولتين.
تبنى شراكات استراتيجية وسياسية واقتصادية مع القوى الفاعلة كافة، حيث يشارك الرئيس عبدالفتاح السيسي فى قمة البريكس بروسيا، وهى القمة الأولى بعد انضمام مصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا لهذا التجمع.
بوضوح عبر الرئيس السيسي عن موقف مصر فى كلمته أمس خلال الجلسة العامة الثانية الموسعة تحت عنوان «تعزيز النظام المتعدد من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين» بقمة بريكس بقازان بروسيا: «تؤمن مصر إيمانًا راسخًا، بأهمية تعزيز نظام متعدد الأطراف، وفى قلبه الأمم المتحدة وأجهزتها، باعتباره الركيزة الأساسية للحفاظ على مكتسبات السلام والاستقرار والتنمية، والضمانة القوية لحفظ الأمن والسلم الدوليين».
«إن الأزمات المتعاقبة التي عصفت بالعالم، خلال السنوات الماضية، أوضحت بما لا يدع مجالًا للشك، عجز النظام الدولى عن التعامل بإنصاف مع الصراعات حول العالم، فضلًا عن حالة الاستقطاب والانتقائية التي أضحى النظام الدولى يتسم بها».
يقول الرئيس السيسي: «القصور الذي يعانى منه النظام الحالى على القضايا السياسية والأمنية بل والاقتصادية والتنموية، حيث تعانى الدول النامية من تصاعد إشكالية الديون وعدم توفير التمويل اللازم لتحقيق أهداف التنمية المستدامة».
فهل ستتمخض الصراعات الدائرة، والتحركات الدبلوماسية والتحالفات الاقتصادية، عن ميلاد نظام عالمى جديد، أكثر عدالة وقدرة على تحقيق السلام والتنمية أم ترسيخ الهيمنة الأمريكية؟!
هذا ما ستكشف عنه الأيام والسنوات القليلة المقبلة.
حفظ الله مصر