مشاهد إنسانية في حادث قطاري الزقازيق
الشرقية _ مي الإزمازي
في غضون الساعة السادسة من مساء يوم السبت الماضي الموافق الرابع عشر من الشهر الجاري، تلك الساعة المشؤومة التي تبدلت فيها الأقدار وانتفض خلالها ذعرًا سكان منطقة عزبة الجمباز في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، لشعورهم بهزة أرضية بثت الرعب في قلوب الجميع، تبعتها صرخات واستغاثات اخترق صداها مسامعهم.
قاطنو المنطقة تتبعوا مصدر الهزة وأصوات الاستغاثات، ليفاجأوا بتصادم قطارين، لحظات تقشعر لها الأبدان وتشيب لها الرؤوس من هول المشهد، ركاب القطارين المحطم عربات أحدهما تتعالى صرخاتهم، يتدافعون من أجل النهوض بالخروج، في لحظات تحبس الأنفاس، وسكان المدينة والباعة الجائلون والشباب والصغار، الجميع يركض نحو القطار لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، العشرات على قيد الحياة وعشرات بين قتلى وجرحى، الأهالي يسارعون بجلب ملاءات وأقمشة لستر جثث الضحايا والمصابين.
دقائق قليلة وبدأت صافرات عربات الإسعاف تدوي في كل أنحاء المدينة، المشهد كان أشبه بقيام الساعة، على حد وصف السكان، والأهالي تسارع للنهوض بمساعدة الركاب الذين ما زالوا على قيد الحياة، لخروجهم وآخرون يهمون بإخراج الضحايا والمصابين، الجميع كان على قلب رجل واحد، وعلى قارعة الطريق بالقرب من منطقة الحادث الأليم، تصطف سيارات الإسعاف تنقل واحدة تلو الأخرى الضحايا والجرحى، للإسراع بهم للمستشفى لمداواتهم.
لم تمر إلا بضع دقائق قليلة من نقل الضحايا والجرحى لمستشفيات الزقازيق الجامعي والأحرار التعليمي وأحد المستشفيات الخاصة، لتعلن وزارة الصحة وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة؛ شقيقتين وابنة إحداهن، وإصابة 49 آخرين من بينهم طفلا الضحيتين.
وزير النقل والمواصلات، الفريق كامل الوزير، وصل إلى موقع حادث تصادم قطاري الزقازيق، عقب نحو ساعتين من الحادث، تفقد وضع عربات القطارين، ومن ثم صعد إلى بلوك التحويلة رقم 5، وأرجع الوزير، في تصريحات له، من موقع الحادث، عبر شاشة قناة "اكسترا نيوز" الفضائية، أن السبب في الحادث، حسب المعلومات الأولية، هو عنصر بشري، مؤكدًا أن قطار ركاب رقم 281 خرج عن طريقه أثناء مغادرته من الزقازيق متجهًا للإسماعيلية، ودخل بقطار ركاب رقم 336 القادم من المنصورة إلى الزقازيق.
عقب مرور نحو 4 ساعات من وقوع الحادث، زارت الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، مصابي الحادث الأليم، للاطمئنان عليهم، ملحمة من متطوعي الهلال الأحمر والأطقم الطبية داخل المستشفى يحاولون مساعدة الجرحى، لحظات حرجة ومؤثرة، حالة من الهلع والصدمة والحزن والبكاء داخل أروقة المستشفى من قِبل أسر المصابين الجميع تردد ألسنتهم بالدعاء من أجل نجاة ذويهم.
تصادف مرور وزيرة التضامن الاجتماعي خلال متابعتها لحالات المصابين داخل مستشفى الأحرار، وجود سيدة خمسينية ترتدي عباءة سوداء اللون تجلس على مقعد أمام غرفة أحد المصابين من أحفادها، وفي حالة انهيار، لحظة مؤثرة ذرفت حينها أعين الجميع ممن طالعو الوزيرة وهي تغمر تلك السيدة بالأحضان وتواسيها في مصابها الأليم، لتخبرها بأنها فقدت ابنتيها وحفيدتها، وأصيب اثنان من أبنائهن بإصابات بالغة.
المشهد كان أصعب من وصفه، حين أخبرت السيدة المكلومة وهي تنهمر في البكاء، الوزيرة، بأن الحزن لم يفارقها منذ عِقد من الزمن حين رحل زوجها بائع الخضراوات إلي دار البقاء، تاركًا خلفه ستة من الأبناء؛ أربع فتيات وولدين، ولم يترك من حطام الدنيا شيئًا يعينهم على الحياة، عكفت بكل ما أوتيت من قوة على رعايتهم وتربيتهم وتعليمهم وتزويجهم بمفردها، دون أن تمد يدها بطلب العون من أحد.
تحملت مرارة الفراق والأيام والسنوات، كافحت وسهرت الليالي، جابت الأسواق والشوارع سعيًا وراء مصدر رزقها كي تكسب من كد يدها في بيع الملابس المستعملة، لتعود في نهاية كل يوم ببضع جنيهات بالكاد تكفي لسد جوف أبنائها.
بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات عقب فراق شريك حياتها، فوجئت بصدمة أخرى، حينما اكتشفت مرض فلذة كبدها "السيد" وهو في منتصف العقد الثالث من العمر، يعاني من فيروس “سي” ليخطفه الموت خلال رحلة علاجه القصيره، تاركًا خلفه طفلين، صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء المولى عز وجل.
لم تقف الأم الثُكلي مكتوفة الأيدي، واستكملت طريق كفاحها من أجل بقية أبنائها، رغم صعوبة الاختبارين السابقين لكن وضعها المولى عز وجل في اختبار ثالث، بعد مضي ثلاث سنوات فوجئت الأم أن ابنها الثاني "صلاح" يحمل نفس المرض اللعين لشقيقه بعدما نهش كبده، ولم تمر إلا فترة قصيرة وفاضت هو الآخر روحه إلى بارئها تاركًا ابنه رضيعًا.
كأن الحزن سكن قلب تلك السيدة الخمسينية وأبى ألا يتركها، بل يزيدها من الأسى أضعافًا، لتحتضن القبور أربعة من فلذات كبدها، وتتحمل من جديد تربية أبنائهم التسعة، ليطلق عليها أهالي المحافظة "أم الصابرين".
ظهر اليوم الرابع للفاجعة كانت لحظة اختلطت فيها مشاعر تلك السيدة المكلومة، عندما فاجأها أحد أفراد أسرتها باتصال قرينة السيسي لتقدم لها واجب العزاء وتواسيها، فكان بمثابة جبرًا لخاطرها.
عقب مرور نحو 6 ساعات من الحادث المشؤوم، كان استقبال مستشفى الزقازيق الجامعي يضج بالصراخ والعويل والنحيب من قبل عدد من السيدات لم تتجاوز أكبرهن العقد الرابع من العمر، يجلسن على الأرض، ليطرح تساؤلاً بين المارة ماذا جرى؟ لتجيب إحداهن بأن أبيها هو الضحية الرابعة للحادث الأليم، والذي استقل القطار المتجه للإسماعيلية، بعدما تناول معهن وجبة الغذاء، وودعهن سعًيا وراء لقمة العيش في صيد الأسماك، تلك المهنة التي كان يمازح أبناءه لأجلها أن يُلقوه في البحر عند مماته لكثرة عشقه لها.
وكانت النيابة العامة، أمرت بتشكيل لجنتين، الأولى لجنة خماسية من المهندسين المختصين بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة والمكتب الاستشاري بالكلية الفنية العسكرية، والثانية من هيئة السكك الحديدية بالقاهرة من المهندسين الفنيين بمحطة مصر، أو المسؤول عن الهندسة الفنية لمحطة مصر، وذلك من خلال الانتقال لمكان الحادث لفحص القطاريين، لبيان مدى صلاحيتهما وصلاحية أجهزة التشغيل والسلامة الخاصة بهما، ومعاينة محل الواقعة، لبيان أسباب وكيفية وقوعه والمتسبب فيه، وبيان مدى اتباع المسؤولين عنهما للتعليمات واللوائح المنظمة للتشغيل من عدمه، وتحديد أوجه المخالفات المنسوبة لهم وطبيعتها وسند مسؤوليتهم.
وأمر النائب العام المستشار محمد شوقي، بتشكيل فريق تحقيق من المستشار المحامي العام الأول لنيابة جنوب الزقازيق الكلية، ورؤساء نيابة استئناف المنصورة، ووكلاء نيابة جنوب الزقازيق الكلية، لمباشرة إجراءات التحقيق في الواقعة.
جهات التحقيق في الواقعة، كانت أمرت بإجراء تحليل مخدرات لسائقي القطارين وعامل التحويلة و5 من العاملين ببلوك المراقبة بمنطقة الحادث، لبيان مدى تعاطيهم المواد المخدرة من عدمه.
أمرت النيابة فيما بعد بحبس عامل التحويلة على ذمة التحقيقات، وإخلاء سبيل سائقي القطارين، وما زالت التحقيقات مستمرة، للوقوف على أسباب الحادث وكيفية وقوعه.