أيمن عبد المجيد
الوعى الدينى.. بين ميلاد نبى الرحمة وآلام الإنسانية
ما أشبه الليلة بالبارحة، قبل 1446 عامًا، كان العالم يموج بالطغيان، بلا عقيدة، ولا سلام، تتهاوى فيه القيم، ويستعبد فيه الإنسان أخاه الإنسان، تتكالب فيه القوى العظمى بمعايير ذلك العصر، على أمة العرب، كما تتداعى فيه الأكلة إلى قصعتها.
عالم ضلّ طريق الإنسانية، إلى قوانين الغاب، التي يحكمها المخلب والناب، بيزنطة، تخلت عن الفكر البناء إلى جدل عقيم بات مضربًا للمثل «جدل بيزنطى»، واليوم يرون المجازر على شاشات الفضائيات، فتنعقد جلسات مجلس الأمن، وتشهد جدلا بيزنطيا بلا قرار رادع للصهاينة.
وفارس يعبد فيها المجوس النار، من دون الله، فتنطفئ نارهم بمولد الصادق الأمين، ومن عبدة النار إلى عبدة الدولار تتبدل العقائد وتنهار القيم أمام قواعد المصالح والتحالفات الدولية.
ويبلغ الكبر بأبرهة الحبشى، أن يدعو الناس للحج إلى كعبته التي بناها، فلا يجد مجيبا، فيقود جيشه بجنوده وفيله الضخم، لهدم بيت الله العتيق، فعصاه الحيوان، فلقى ومن تبعه عقاب الله « وَأَرسَلَ عَلَيهِم طَيرًا أَبَابِيلَ (3) تَرمِيهِم بِحِجَارَة مِّن سِجِّيل (4) فَجَعَلَهُم كَعَصف مَّأكُولِ».
كانت العرب تحكمهم القبلية، وتفرقهم العصبية، منقسمين، بين سادة وعبيد، أثرياء وفقراء، وبين كل فئاتهم وتقسيماتهم الصالح والطالح، فمنهم من يطغى ويغلبه هواه، ومصالحه، ومن يحفظ الحقوق ويرعى القيم، يتعامل بشرف، وإخلاص ينصر الضعيف والمظلوم.
حتى جاء مولد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» - سورة الأنبياء آية ١٠٧.
رحمة للعالمين، يوحد الفرقاء، فلا قبلية ولا عصبية، يؤسس دولة مدنية، تحفظ الحقوق والدماء، دستورها التعاليم الربانية، أساسها القيم الأخلاقية، والفطرة الإنسانية السوية، رسالة سماوية تهذب النفس، وتنشر السلام والأمن، تحرم العدوان على الأنفس والأعراض والأموال والممتلكات العامة والخاصة.
بُعث الصادق الأمين ليتمم مكارم الأخلاق، تلك التي غرسها الله سبحانه فى الفطرة الإنسانية، وبعث الرسل والأنبياء مذكرين بها من ضل السبيل من أقوامهم، ليأتى خاتم الأنبياء والمرسلين لهداية البشرية والإنسانية جمعاء.
نزل عليه القرآن الكريم، «آلم (١) ذلك الكتاب لا ريب فيهِ هدى للمتقين(٢) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (٣) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون» صدق الله العظيم.. سورة البقرة.
كتاب لا خطأ فيه، إلى قيام الساعة، هداية للمتقين، هؤلاء الذين يؤمنون بالله وملائكته ورسله وكتبه، واليوم الآخر والبعث، عن يقين، وما أعظم ذلك، فالله يخبر نبيه خاتم المرسلين أن الإيمان بما أنزل إليه مقترن بالإيمان بما أنزل من قبله من كتب سماوية، وهذا يرسخ لقبول الآخر معتنق الديانات السماوية.
بينما الإيمان بالآخرة، والحساب، عن يقين، يدفع الإنسان لمراجعة أفعاله وسلوكياته، فالحياة ليست عبثا، ومنتهاها إلى حساب فى الآخرة، فلا مظلوم يصيبه اليأس فى ظل عجزه عن استرداد حقه، ولا ظالم يظن أنه يمكنه أن يفلت من القصاص، فإن تمكن فى الدنيا، فيستحيل عليه أن يهرب من الحساب فى الآخرة.
ذلك اليقين يجعل الإنسان يراجع نفسه، ويردع أطماعه وشهواته وسلوكه، لكنهم فقط المتقون من يفكرون بهذه الطريقة، فما أحوجنا إلى وعى دينى قويم، يضاعف من أعداد المتقين فى مواجهة المتطرفين دينيًا وأخلاقيًا ولادينيًا.
ما تعانيه الإنسانية من ويلات، ما هو إلى ثمار مرة لسلوكيات المتطرفين، وما تعانيه المجتمعات من تفكك يهدم الحضارات، ما هو إلا نتاج التطرف الدينى واللادينى والسياسى والعرقى والقبلى، والفساد القيمى والأخلاقى، وويلات العالم فى الحروب العالمية ما هى إلا نتاج اعتلاء متطرفين لا أخلاقيين السلطة.
نتذكر تطرف هتلر العرقى باسم القومية، وهدم الدول الوطنية فى العصر الحديث وتدميرها بصراعات داخلية عرقية وقبلية ومذهبية، عندما يتراجع الوازع الوطني والأخلاقى والإيمان بالآخرة والحساب، يعبد المتصارعون شهواتهم وتنبت فى أياديهم المخالب وفى أفواههم الأنياب.
انظر إلى شاشة التلفاز أمامك، سترى مخالب وأنياب نتنياهو وعصابته الصهيونية، متطرفين يتاجرون باسم الدين، يعبد نتنياهو كرسى الحكم، ويعبد أنصاره شياطينهم، رغم ما يدعونه من الإيمان بالله، فهم يرتكبون الإبادة الجماعية بحق خلق الله فى قطاع غزة.
رغم ما يدعونه من أنهم مؤمنون بالله، فهم أبعد ما يكونون عن تعاليم السماء، هم مجرمو حرب يعبدون مصالحهم.
المصري القديم عرف الله، وبنى حضارته عندما أدرك أن الحياة رحلة قصيرة يعبر منها إلى الآخرة، حيث المحاكمة العادلة لما اقترفه من خير أو شر، يدرك أنه سيواجه 42 سؤالا بالإيجاب ومثلها بالنفى، فيحرص فى حياته على ألا يفعل ما يدينه فى الآخرة.
يُسأل: هل سرقت؟ هل جعلت إنسانا يذرف دمعًا، هل لوثت ماء النيل؟، هل كنت عين من لا عين له وقدم من لا قدم له؟ وغيرها من الفضائل.
العدل والقيم الأخلاقية، أساس بناء الحضارة الإنسانية، عليها قامت أسس حضارة مصر، وبها أشرقت شمسها التي أضاءت الكون وواجهت ظلمة جهله وهمجيته، وعليها قامت الحضارة الإسلامية، وانتقلت القبائل التي تعيش على الإغارة والقتل إلى دولة امتدّت من الشرق إلى الغرب.
ما يحدث فى غزة من مجازر صهيونية، وإبادة جماعية، هدم كل ما ادعاه العالم من قيم إنسانية، وشعارات جوفاء عن حقوق الإنسان، فلا حرمة لدماء، ولا قدرة لمنظومة دولية بمجلس أمنها العاجز، ولا قدرة للضمير الإنسانى على ممارسة ضغوط على الفاعلين الدوليين الراعين للمعتدين.
اشتعال نيران الحروب حول العالم، وسفك الدماء وارتكاب جرائم حرب، ردة على الحضارة والقيم الإنسانية، سطوة القوى العظمى تكنولوجيًا، للسيطرة على العقول فى الدول الفقيرة والنامية، وإذكاء الصراعات الداخلية للسيطرة على الثروات من قوى خارجية نوع جديد من العبودية.
فما أحوجنا اليوم فى ذكرى ميلاد نبى الرحمة، إلى بعث جديد لفهم صحيح للتعاليم الربانية التي بعث بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ما أنزل إليه وما أنزل من قبله، ما أحوجنا إلى يقين بالحياة ومقاصدها ودورنا فى إعمارها وحفظ حقوق شركائنا بها، بشر وبيئة وحيوانات ونباتات، ويقين بالآخرة والحساب.. ما أحوجنا إلى وعى دينى يخفف من آلام الإنسانية ويحفظ حضارتها المهددة بالفناء.
صلى الله على سيدنا محمد الصادق الأمين
وعلى آله وصحبه وسلم
حفظ الله مصر