مودي حكيم
صحافة الذكاء الاصطناعي.. إلى أين؟!
ليس من الغريب أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي إلى 42.4 مليار دولار مع حلول هذا العام، وخاصة بعد دخول الصحافة فى استخدام أشكاله، كما أثار الاهتمام الدور المتزايد الذي تلعبه هذه الأدوات في صناعة الإعلام.
باستراتيجيات وممارسات ومشاركة احترافية مع بقاء الحكم البشري فى الممارسة الصحفية.
استخدم العديد من الصحفيين والمحررين أدوات النسخ بالذكاء الاصطناعي في روتينية بمعظم غرف الأخبار، للتحقق من صحة مصادر المعلومات واستجوابها.
كما أمكنهم استخدامه أيضًا للتحقق من المحتوى، وتحليل الشبكات الاجتماعية، وإنشاء موجزات إخبارية مخصصة.
ومع استعراض تجارب المؤسسات الإعلامية الكبرى كمؤسسة الأسوشيتد برس، نجدها استخدمت الذكاء الاصطناعي في توليد التقارير والقصص الخبرية المتعلقة بأرباح الشركات، والتغطية الرياضية، وكتابة الملخصات، وأداء الكثير من مهام الأخبار الروتينية الأخرى، مما أسهم في زيادة تدفق المحتوى الإخباري. وBBC وظفت الذكاء الاصطناعي في ترجمة التقارير الإخبارية إلى لغات مختلفة لتوسيع رقعة انتشارها الجغرافي. أما نيويورك تايمز، فقد استخدمت الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوكيات المستخدمين، والنقاشات في مجتمعات السوشيال ميديا، وتحديد الموضوعات الرائجة في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل توظيفها في التغطيات الإخبارية.
فى حين وظفت جريدة الفاينناشيال تايمز الذكاء الاصطناعي في تحليل سلوكيات القرّاء وتفضيلاتهم، واقتراح أنظمة اشتراكات تتلاءم مع طبيعة قرّاء الموقع.. وكذا مؤسسة Fullfact البريطانية المعنية بالتحقق من المعلومات المضللة وفحص الادّعاءات الموجودة في خطابات السياسيين، والصحفيين، والمؤسسات الكبرى، والمحتوى الفيروسي ذائع الانتشار على السوشيال ميديا.
وللحقيقة بدأت آليات الذكاء الاصطناعي تلعب دورًا محوريًا يعيد تشكيل المنظومة الإخبارية، فقد تمكنت الأنظمة الذكية من إنجاز مهام كانت تحتاج إلى جهود بشرية كبرى، مثل جمع وتحليل البيانات الإخبارية الضخمة وتحويلها إلى معلومات قيّمة في هيئة نصوص وتقارير.
وقد بدأت بعض وكالات الأنباء الكبرى في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج أخبار تقنية عالية الجودة تزامنًا مع حدوث الأحداث.
فعلى سبيل المثال، أصبحت الروبوتات الصحفية قادرة على كتابة تقارير مالية ورياضية مفصلة بلغة واضحة ومباشرة بعد لحظات من انتهاء الحدث الرياضي أو إغلاق الأسواق المالية. تأتي هذه القدرات جنبًا إلى جنب مع تحسن معرفة الذكاء الاصطناعي بالنمط الكتابي الذي يفضله القراء، مما يمكنه من تقديم محتوى شخصي يلبي الاحتياجات والتفضيلات الإخبارية لكل فرد.
كما جربت منظمات إخبارية مثل داو جونز وبلومبرج ورويترز الأتمتة لتبسيط تغطيتها لسوق الأوراق المالية وتقارير الأرباح.
وجدت دراسة استقصائية حديثة بين المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام (الناشرين والمحررين وأولئك الذين يشغلون مناصب عليا داخل مؤسساتهم) أن ما يقرب من ربعهم (23٪) قالوا إنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي بانتظام للتوصيات، بينما قال 5٪ إنه جزء كبير مما نقوم به". يستبعد فرانشيسكو ماركوني في كتابة "صانعو الأخبار.. الذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة" فكرة أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الصحفيين البشر. وشدد على أن بعض جوانب الصحافة مثل الجوانب العاطفية، والسياقية، والإبداعية لا يمكن أتمتتها على عكس جوانب أخرى روتينية تأتمتت بالفعل مثل تعقب البيانات، وتحليلها، وأرشفتها. يدعو ماركوني إلى تجنب حصر النظر إلى مسألة الذكاء الاصطناعي والصحافة بالبعد التقني وحسب، وبالتالي الوقوع في فخر الترهيب الذي يمارس في حق التكنولوجيات الجديدة الوافدة على حياة البشر. على العكس، ينبغي النظر، كما يجادل، إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى التحولات الجذرية التي ستلحق مهنة الصحافة من حيث فهم الجماهير، ومواكبة التحولات الاجتماعية، وتطور الأجيال المتعاقبة. باختصار، ترتكز فرضية ماركوني على فكرة مفادها أن استخدام الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات في الصحافة لا يهدف إلى أتمتة الصناعة بالكامل، بل إلى زيادة الكفاءة في جمع وإنتاج الأخبار. ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: ما هو الحد الأقصى المسموح به؟ مع استمرار المؤسسات الإعلامية في الاعتماد بشكل أكبر على تقنية الذكاء الاصطناعي، سيكون هناك عواقب أخلاقية ومعنوية محسودة.
اقترح الصحفي والاستراتيجي الرقمي نيك نيومان أن الذكاء الاصطناعي سيساعد شركات الإعلام على القيام بالمزيد بموارد أقل، فضلاً عن فتح الفرص في إنشاء وتوزيع محتوى أكثر ذكاءً. لكنه سيجلب أيضًا معضلات جديدة حول كيفية استخدام هذه التقنيات القوية بطريقة أخلاقية وشفافة.
لقد اضطرت بعض المؤسسات بالفعل إلى مواجهة هذه المعضلات. في يناير 2023، أعلنت CNET أنها أوقفت نشر جميع القصص التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي "في الوقت الحالي"، بعد التشكيك في دقة بعض محتوى الذكاء الاصطناعي.
أدى هذا إلى مراجعة داخلية للمقالات، حيث اكتشف المحررون أن "عددًا صغيرًا" من المقالات يتطلب تصحيحات كبيرة، في حين أن "العديد منها" كان بها مشكلات بسيطة (أسماء شركات غير مكتملة، وأرقام منقولة، وما إلى ذلك).
في مقال تناول الجدل، قالت رئيسة تحرير CNet "كوني جوجليلو" إنهم ملتزمون بإصلاح المشاكل وملتزمون باستكشاف واختبار كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة فرقهم على إنشاء "نصائح غير متحيزة وتقارير تستند إلى الحقائق التي نشتهر بها".
لا يزال هناك الكثير مما تحتاجه شركات الإعلام والناشرون ومنشئو المحتوى إلى اكتشافه وتعلمه وفهمه حول أدوات سرد القصص الآلية، وسنكون في مقدمة هذا العمل.
وقالت إننا ملتزمون بتحسين محرك الذكاء الاصطناعي من خلال الملاحظات والمدخلات من فرق التحرير لدينا حتى نتمكن نحن وقراؤنا من الثقة في العمل الذي يساهم فيه.
CNet ليست أول مؤسسة إخبارية تواجه معضلات أخلاقية ومعنوية تتعلق بالذكاء الاصطناعي ولن تكون الأخيرة. طرح الصحفي المستقل بيتر ستيرن بعض الأسئلة التي يعتقد أنها ستحتاج إلى إجابة من الصحفيين أثناء تنقلهم في استخدام الذكاء الاصطناعي: "مع دخول هذه الأدوات إلى غرف الأخبار، فإنها ستثير أسئلة جديدة حول أخلاقيات الصحافة: هل من الخطأ تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي على آلاف صور الفنانين دون موافقتهم؟ هل من المضلل نشر صورة لشيء غير موجود بالفعل أو لحدث لم يحدث أبدًا؟ إذا استخدم المراسل نموذجًا لغويًا كبيرًا لكتابة مقال، فهل يجب اعتبار ذلك سرقة أدبية أو حتى خرافة؟".
في المحصلة سيبقى الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة، توفر للصحفي الجهد فى البحث، وستبقى مثل قواميس اللغات ومراجع الموسوعات، ولن تحل محل الصحفيين البشر.
يشير هذا إلى وجود علاقة بين التعرف على قدرات الذكاء الاصطناعي والنظر بواقعية للمخاطر التي يشكلها. فغالبية المحللين وباستطلاع آرائهم يعتقدون ببقاء اللمسة البشرية في العمل الصحفي حتى مع زيادة الاعتماد على التقنيات الحديثة. بمعنى، أن الصحفيين ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تكميلية وليس بديلاً عن الصحفيين البشر.
يقتضي العامل الوجداني توافر شرطان هما: الإدراك والفعل التواصلي. يكمن البعد العاطفي الإنساني في العمل الصحفي في قدرة الصحفي على إدراك مكامن الخبر من حيث رصد سياقاته، والعوامل البشرية المؤثرة فيه، ومن ثم بناء معادلة تواصليه مع القائمين عليه والمتفاعلين به.
فلا يمكن أن يكون هناك إحساس من غير إدراك، كما لا يمكن أن يتوافر إدراك من غير عملية تواصل. هذا ما تفتقد إليه، وفق رأي غالبية المستطلعة آراؤهم، تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تقوم ببناء الخبر وفق خوارزميات تتبع البيانات المتوافرة على شبكة الإنترنت، واستخدام الأنماط والنماذج التي تم برمجتها عليها بحيث لا يكون للإحساس، أو الإدراك، أو القدرة على التواصل أي مساحة في عملها.
ومن هنا أقول لأسرتي من الصحفيين والكتاب اطمئنوا فستبقي اللمسة البشرية وهي الخصائص الإنسانية التي تطبع عمل الصحافة ولا يمكن الاستغناء عنها فقد تراوحت ما بين العواطف، والوعي، والفاعلية الذاتية، والقدرة على التواصل ، فتشكل المشاعر والأحاسيس والعواطف عاملا جوهريا في دعم الرأي القائل بأن الذكاء الصناعي لن يحل محل الصحفيين البشر. بالنسبة لأصحاب هذا الرأي لا تقتصر مهنة الصحافة على نقل الأخبار بشكل مجرد وآلي وحسب الأمر الذي يؤدي إلى إخراج منتج متشابه يتسم بالجفاف.
على العكس، يتفاعل الصحفي مع محيطه من خلال عملية التأثير والتأثر المتبادلة. ينقل الصحفي في كثير من الأحيان معاناة وآلام البشر الذين يتعرضون للمصائب والمحن في الحروب والكوارث الطبيعية، وبالرغم من أن الموضوعية في العمل الصحفي تعتبر قيمة جوهرية، فإن المشاعر والاحاسيس تلعب دورا كبيرا في عملية صياغة الصحفي للخبر ووضعه في سياقه من أجل التعبير عن الحالة بشكل أكثر دقه من شأنها أن تنقل للمتلقي حيثيات الخبر والأجواء المحيطة به.
وسيبقى الإنسان سيد هذا الكون الذي خلقه الله على أكمل صورة.. وستثبت الأيام لنا إلى أين تقودنا صحافة الذكاء الاصطناعي.