فن الدبلوماسية.. نظام الأسبقية بالمناسبات الاجتماعية والرسمية
تتفاخر المدارس الدبلوماسيَّة الغربيَّة بصورةٍ خاصَّة بوضع أُسُس ومقررات نظام الأسبقيَّة، ليس فقط بالحضور والجلوس بالمؤتمرات الرسميَّة والأنشطة الاجتماعيَّة، بل ذهبت لأكثر من ذلك ومِنْها وضعت نظام الأسبقيَّة في المخاطبات الرسميَّة وتوجيهِ الدَّعوات لحضور الفعاليَّات الرَّسميَّة كَعِيدِ الاستقلال أو العيدِ الوطني.. وغيرها من الفعاليَّات والأنشطة.
إنَّ تاريخ المراسم ونظام الأسبقيَّة قد عُرف في حضارتَي وادي الرافدَيْنِ والفراعنة وحضارة مجان ودلمون، حيث كانت الرُّسومات في مدينة بابل الأثريَّة خيرَ دليلٍ على وجود نظام الأسبقيَّة وبروتوكول كبار الشَّخصيَّات من هرم الدَّولة، الحاشية، رِجال الدِّين، العلماء، رِجال الأعمال وعامَّة النَّاس، وتطوَّر بشكلٍ بسيط في القارَّة الأوروبيَّة بعد الفترة المُظلِمة الَّتي مرَّت على العالَم.
وتحتلُّ الأسبقيَّة لكبار الشَّخصيَّات في إقامة الدَّعوات مكان الصَّدارة في موضوع البروتوكول لِتحدِّدَ الأسبقيَّة بالنِّسبة للرُّؤساء والمُلوك والأباطرة إلى قِدَمِ كُلِّ مِنْهم في الحُكم؛ أي إلى تاريخ تتويج المُلوك أو تاريخ تولِّي رؤساء الجمهوريَّات الرئاسة دُونَ أيِّ تمييزٍ. تُعرف الأسبقيَّة في قواميس ومراجع اللُّغة العربيَّة على مختلف مصادرها بأنَّها هي الأولويَّة أو الأقدميَّة، وتُعَدُّ الدبلوماسيَّة الإسلاميَّة هي أولى المدارس الَّتي وضعتِ اللَّبنة الأساسيَّة لنظام الأسبقيَّة بأغْلبِ مفرداتها الَّتي تُعَدُّ اليوم نظريَّات ومفاهيم تُدرَّس في أغْلبِ الجامعات المتخصِّصة بفنِّ الدبلوماسيَّة والعلاقات العامَّة، حيث التَّوجيهُ الإلهي ليس للمُسلِمين فقط، وإنَّما لجميع الجنس البَشَري على المستوى الاجتماعي أو الرَّسمي قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ..) (البقرة ـ 253)، وعن أنس (رضيَ اللهُ عَنْه) أنَّ النَّبيَّ (صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم) قال: (حسبك من نساء العالَمين: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)، بالإضافة إلى أنَّ السِّيرة النبويَّة ثريَّة بوضع اللَّمسات الجوهريَّة لهذا النِّظام لمختلفِ الشَّخصيَّات وشرائح المُجتمع. مِن أهمِّ أنواع نظام الأسبقيَّة هو النِّظام الإداري وكيفيَّة تصنيف المخاطبات والمراسلات على مختلفِ أنواعِها بالجهات الحكوميَّة أو القِطاع الخاصِّ والمختلط، وكما يلي: (سري للغاية، سرِّي، عاجل وفوري، عاجل، خاص جدًّا، العادي). أمَّا نظام الأسبقيَّة بالعمل الدبلوماسي وكادره فهو يتقسَّم إلى: (السَّفير4، الوزير المفوَّض، المستشار، سكرتير1، سكرتير2، سكرتير3، ملحق دبلوماسي)، بالإضافة إلى الإداريِّين والملاحق العاملين بالسّفارات.
يُعَدُّ نظام الأسبقيَّة بالنِّسبة إلى السُّفراء، والمشاركة في الفعاليَّات الرَّسميَّة مِثل: حفلات الاستقبال أو الأعياد الوطنيَّة من أهمِّ المهارات الدبلوماسيَّة الواجب الاهتمام بها، حيثُ يتمُّ ترتيب السُّفراء وفقًا لأسبقيَّتهم، ويكُونُون عادةً في ترتيبٍ لاحقٍ بناءً على تاريخ تقديم أوراق اعتمادهم لضمانِ سَير الأمور بسلاسةٍ واحترام البروتوكول. إنَّ هذا النِّظام يهدف إلى تجنُّب أيِّ تعارُضٍ أو تضارُبٍ في المواقف الرَّسميَّة، ويُسهِّل التَّرتيبات البروتوكوليَّة وأُسُس نظام الأسبقيَّة الَّذي يعتمد على تاريخ تقديم أوراق الاعتماد، حيث يُعَدُّ التَّاريخ الَّذي قدَّم فيه السَّفير أوراق اعتماده إلى الدَّولة المُضيفة عاملًا مُهمًّا في تحديد أسبقيَّته، بالإضافة إلى الأخذِ بِعَيْنِ الاعتبار النّقاط الآتية:
1 ـ المنصب والمستوى الدبلوماسي: يُؤخذ في الاعتبار مستوى المنصب الَّذي يشغله السُّفراء من دوَل ذات ثقلٍ اقتصادي أو سياسي قد يحصلون على أسبقيَّة أعلى.
2ـ الاستقلال السياسي للدَّولة: في بعض الأحيان يُعَدُّ استقلال الدَّولة ووزنها السياسي عند تحديد أسبقيَّة السُّفراء، والسُّفراء من دوَلٍ ذات تأثير كبير قد يحصلون على أسبقيَّة أعلى. تميَّز البروتوكول العُماني عن غيره من المدارس الغربيَّة والشرقيَّة وحتَّى العربيَّة العريقة في هذا المجال بالاهتمام بالموروث العُماني الأصيل المستمدِّ من دِيننا الحنيف وعاداتنا الأصيلة الكريمة بكُلِّ مفرداتها المعروفة، وأنا شخصيًّا من هذا المنبعِ العريق، فقد قسمت نظام الأسبقيَّة إلى ثلاثة أقسام:(نظام الأسبقيَّة الحكومي، نظام الأسبقيَّة الرَّسمي، نظام الأسبقيَّة الاجتماعي)، وطبعًا لكُلِّ نظام له أولويَّات مبرمجة وأقدميَّة بشكلٍ مبنيٍّ على الاحترام والأخلاق الكريمة والأولويَّة استنادًا إلى العُمق التَّاريخي، وبعيدًا عن التَّباهي وفرض إظهار الشَّخصيَّة. وهناك تقسيمات لا مجال بذكرها بهذا المقال المتواضع في إتيكيت الجلوس وحضور الفعاليَّات والأنشطة الرَّسميَّة والاجتماعيَّة للأقسام الثَّلاثة، سواء لرِجال وعلماء الدِّين أو رؤساء القبائل أو الولاة أو رؤساء وعمداء الكليَّات والخبراء وضيوف الشَّرف. وكذلك لا ننسى العنصر النّسوي بمختلف المُسمَّيات من النَّاحية الاجتماعيَّة أو الحكوميَّة، لذلك على موظَّفي العلاقات العامَّة والمراسم أو التَّشريفات أن يكُونُوا على درايةٍ وافية ومستفيضة، ويطوِّروا من مهاراتهم دائمًا وفقًا للمستجدَّات لهذا العِلم الدَّقيق والجوهري، ولكَيْ لا يتسبَّبوا بالإحراج، وبالتَّالي النَّتائج السلبيَّة وعدم حرفيَّتهم تكُونُ عنوان عملهم.
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت