عاجل
الأحد 1 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي

غلاء سمير أنس تكتب: قراءتي في كتاب "عشتار في اللباس والجسد"

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

"العصر منصرف انصرافاً جارفاً إلى تدبير شؤون الناس تحت راية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد حان الوقت، بأشد ما يكون الإلحاح، لتصحيح وجهة السير وإعادة الاعتبار لمقولة الواجبات، عطفاً على مقولة الحقوق، وتدبير شؤون الناس تحت راية جديدة هي، بكل بساطة، راية الإعلان العالمي لواجبات الإنسان".



"وواجبات الإنسان تبدأ بواجباته تجاه نفسه، لأن واجباته تجاه الآخرين وتجاه الطبيعة المحيطة به لا تقوى على الصمود إذا أفرغ ذاتيته من كل واجب بينه وبين نفسه".

 

"هل هذا الموقف يتعارض مع أخلاقية الحرية؟ بالتأكيد لا، لأنه يحمي الحرية من نفسها ويضعها في مكانها الصحيح من قضايا الوجود والقيم، وأعني، بنوع خاص، قضايا الوجود مع الآخرين، وقضايا الحقوق والواجبات بكافة مستوياتها".

 

كتاب عشتار: في اللباس والجسد – ناصيف نصار

 

هذا الكتاب مُهم وجدير بالقراءة مراراً، ولا يعود ذلك إلى صعوبة مادته، بل إلى الحاجة الإنسانية إلى التذكرة المستمرة لحقيقتها ومواقفها الأخلاقية الضرورية، في مواجهة المحاولات الحثيثة للعالم في ثنيها عن ذلك.

 

يتألف الكتاب من حوار يدور بين "حكيمٍ" ذي فلسفة وبين عشتار، الشخصية التي تريد أن تفهم بعض الحيثيات حول قضايا الجسد والأنا واللباس والمساواة والحرية، ولن يلبث القارئ طويلاً حتى يفهم أن الحكيم يمثل البداهة الإنسانية التي نحتاج أن تذكرها، وعشتار تمثل المنظور الإنساني الواقع في الحيرة، والكيان الأنثوي الباحث عن الحدود والثوابت في عالمٍ تسيل منه المبادئ والقيم باستمرار.

 

تحدث الحكيم أولاً عن وظائف اللباس الصحية والتشكيلية والأخلاقية، وبيَّن أن العلاقة بين حُرية المرء فيما يرتديه محكومة بمسؤوليات مهمة، تقتضي بالضرورة واجبات المرء تجاه نفسه والآخرين في مجتمعه وعالمه، ومن هنا ناقش الليبرالية التكاملية التي تقاوم تشيئة الجسد واللباس، وتحافظ على الكرامة الإنسانية في مكانها المناسب.

 

وفي حديثه عن الحشمة، تناول المحور الأخلاقي الذي تدور حوله، والمتعلق بلفت نظر الآخرين عن الظاهر لإدراك الأنا الداخلية للمرء، أو على الأقل لتجنب إرغام النفس على التمظهر في الظاهر فحسب دون الباطن، وناقش ضرورتها في سياق الوظائف الثلاث للثياب، وفي سياق ضبط نفس المرء ورغبات الآخر والإعانة على الاهتمام بالجانب الأخلاقي الذي يجب أن نؤمن به جميعاً.

 

وتناول موضع المرء في المجال الاجتماعي، والذي قسمه إلى مجال خاص ومجال عام، وقسَّم الأول إلى الخصوصية المكشوفة والخصوصية المحجوبة والخصوصية الخالصة، والثاني إلى العمومي الخاص والعمومي الرسمي والعمومي العالمي، في هذا الوضوح في التقسيمات إدراك للمواقف التي تجمعها سوية، والتداخل فيما بينها، إلا أن هذا التقسيم يخدم القضايا الأخلاقية والمسؤولية المجتمعية، ويساعد المرء في قراراته الخاصة والعامة، وإدراك موضعه في مجتمعه، ومن هنا يعود الكاتب إلى وظيفة الحشمة كأداة أخلاقية واجتماعية تمنع تطرف الرغبة والأنانية، وتحافظ على الكرامة والحرية في السياق الذي يستحقهما الفرد فيه.

 

وفي حديثه عن الجسد، يوضح الكاتب أنه بُعد للأنا ومُضاف إليها، وليس "شيئاً" يُمتلك ويُستخدم وسيلة، وفي هذا تأكيد على انطواء الجسد على الكرامة في حد ذاته: "جسدي ليس شيئاً آخر، وإنما هو أنا، وأنا كائن يدرك نفسه كذات متجسدة".

ويتحدث عن الدور الحيوي للآخر في مفهوم الجسد وحريته، خاصة عندما نفهم أن الأنا كيان قائم بذاته، يملك بُعدين: اجتماعيٌ وجسدي.

 

ويقول الكاتب إن ما أفضت إليه الرأسمالية انتزاع الجسد من كيان الأنا وتحويله إلى سلعة يتم تسويقها وبيعها وضمان سهولة الوصول إليها، بعد الفصل التام بينها وبين كرامة الأنا وما تمليه عليها، ويقول بأننا يجب أن ننظر إلى أجسادنا من منظور تكافلي يجمع بين العقلانية والعلمية والفنية، فهو موضوع تتمثل عبره الأنا ويعبر عن نفسه عبر خصائصه.

وفي حديثه عن العلاقات المجتمعية يؤكد الكاتب على أن التكامل في العلاقات مبني على أربعة مبادئ مهمة: الحرية للجميع، المساواة الجوهرية بين الجنسين، التفاوت المشروع والعيش المشترك. ما يعني أن مفهوم العدل في فهم المواقف المعتمدة على المساواة والمواقف المعتمدة على التفاوت مُهم لضمان التصرف الأخلاقي المناسب، خاصة في مسألة الوالدية وتربية الأطفال.

 

وعن الرأسمالية، يتحدث الكاتب عن استنادها إلى مديح السلعة وتسويقها، تكثيرها والإنتاج منها وضمان سهولة الوصول إليها، وعن ضرورة تطوير العقل النقدي الذي يُحلل هذه العناصر ويدرك خطرها على الكرامة الإنسانية والرغبات ومفاهيم السعادة والامتلاك والامتثال، ذاك أن أخلاقية السوق مستندة فقط إلى الربح، ويمكنها الانتماء لأية أيديولوجيا إن ضمنت استمرارية تدفق الأموال تحت ظلها، الأمر الذي يهدد التصرف الأخلاقي ويصعِّبه على المرء.

 

وتحدث عن تحويل الرأسمالية للسعادة إلى ضرورة الامتلاك والتحقيق السريع للرغبات وتلبية متطلبات الأنا دون إخضاعها للشروط الأخلاقية التي تحافظ على كرامة المرء وقدره، مناقشاً المفهوم الحقيقي للسعادة، والكامن في إدراك المرء لقدراته وإمكاناته والتعايش مع الأفعال والممارسات التي يمكنه التميز فيها وتسخير طاقته لأجلها، بعيداً عن تملك المنتجات أو الاعتماد على المقارنات أو التخيلات الوهمية لمفاهيم النجاح والإنجاز، أي على السعادة أن تضمن الكرامة الحقة لجميع الناس والعدل الشامل لجميع الكائنات.

 

وفي مفهوم الواجب، تحدث الكاتب عن الذات المفكرة التي تدرك بأن الحرية كامنة في فهمها لحقوقها وواجباتها، والانطلاق من مفهوم أخلاقي يحفظها من التطرف والمبالغة، وعن ثقافة الذهن التي تنتج الكثير من التغيرات المهمة، والمستندة إلى منظور نقدي وفاحص، مقابل ثقافة الجسد التي تتعامل مع كيان ثابت ولا تفضي إلَّا إلى المبالغة في تسويقه.

 

وفي نهاية الكتاب، تحدث عن ضرورة تخلص الذات العارفة من ملوثات فكرها ومعيقات تفكيرها الخلاق، كالكذب والتخفي والأوهام والجهل، وعن ضرورة أن يدرك المرء أن منطلقه الأخلاقي قد يكون أهم ما يملك في نهاية المطاف، وأهم معيار يقيس به سعادته واطمئنانه وجودة حياته.

 

وجدت الكتاب جيداً للغاية ومُهم في طرحه، فلا يمكن أن تضح الصورة للمرء في هذا العالم إلا عبر الفلسفة والسؤال والنقد، وهذا من الكتب التي تساعد القارئ على توضيح منظوره إلى الحياة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز