عاجل
السبت 29 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

قصة قصيرة

الـــــــحــــــــقيـــبـــــــة

رسوم الفنان هبة عنايت
رسوم الفنان هبة عنايت

ظللت طوال الطريق نائمة على صدره، أغمر وجهي فيه كعطشان يغرق وجهه في نهر، أرهف السمع إلى دقات قلبه لكي أطمئن، أضبط أنفاسي على إيقاعها.



ساكنة رأسي على صدره ويدي اليسرى مستريحة خلف ظهره ويدي اليمنى تطوِّق عنقه. لم أخجل من سائق التاكسي. لم أكترث أصلًا.

 

لم أكن أرى إلا أيمن، لم أشعر إلا برغبتي الجارفة فيه أريد أن أحلِّق معه فوق سنوات الفراق المعتمة، أن نتجاوزها كأنها لم تكن. أن أنطلق به نحو الحب، نحو الفرح أغمر.

 

أهمس له: هل حقيقيّ أن قانون الحياة أصبح سخيًّا معنا أخيرًا؟

 

يهز رأسه نافيًا: نحن الآن معًا لأنك أردت ذلك.

 

طعنت جملته بهجتي ومع ذلك ظللت أشعر بسعادة أن أسمع صوته، ما زال صوته يسعدني حتى لو كان قاسيًا!

 

أتذكر عندما كان حديثه أول نهاري وآخر ليلي، وزعلي لو تأخر اتصاله دقائق، طفولتي وأنا أقول له: من صوتك يتعاقب الليل والنهار، تشرق الشمس.

 

يا ربي!! أنا الآن معه بعد كل تلك السنوات.

 

يمر الطريق سريعًا وجميلًا. نصل إلى الفندق الذي حجزت فيه غرفتين لنا. ستكون هذه الليلة آخر ليلة أنامها من دون حضنه، ومن دون أن نتقاسم أنفاسنا، وأن ألتصق بجسده، بروحه، أن يختلط منا الندى. غدًا سيتحقق حلمنا المؤجل، سنتزوج ونصير واحدًا.

 

لا أعرف لماذا رضخت لرغبة أبي المتجبرة حين رفض زواجنا، ولماذا أصر هو أن يكسر قلبينا، ولم يستجب لتوسلاتي ودموعي.

 

بعدها سافر أيمن يائسًا، انتظرته ولم يرجع.

 

كانت سياط الأمل في عودته تجلدني كل يوم حتى نجح اليأس وتزوجت غيره وأنجبت وسارت بي الحياة معتمة وبخيلة، وأنا مطارَدة بذكرياتي وأيمن.

 

عزلة مؤلمة عشتها لم يخفِّف من قسوتها إلا وجه ابني، ملامحه وهي تكبر أمام عينيَّ يومًا بعد يوم. صار طريقي الذي لا بد أن أسيره بشجاعة.

 

عندما مات زوجي لم أقوَ على الاتصال بأيمن الذي ما زال قلبي متيمًا به. إلى أن أتاني صوته منذ أيام، فكأن السنوات لم تمر.

 

سمعت صوته شعرت أنني عصفور يذوق للتو متعة أول طيران، وأن ملائكة تخفق بأجنحتها حوله.

 

أمسكت هاتفي بحرص خشية أن يقع من يدي المرتعشة، وأنا أسمع خفقات قلبي عالية ومتلاحقة.

 

جلست؛ إذ لم تعد قدماي قادرتان على حمل جسدي، فرحتي، دهشتي، ذكرياتي التي مضت، أحلامي التي لم تتحقق بعد.

 

يتكلم أيمن وأنا أسمع، أذوب، أشرد، أعود.

 

أتمنى لو أشرب صوته ليتخلل كل خلايا جسدي.

 

أغلق الهاتف، أستدير، أنظر إلى النتيجة المعلقة على الحائط، يومان ويصل إلى مصر.

 

ثمانٍ وأربعون ساعة، ومليون شوق بيني وبينه.

 

لأول مرة في حياتي أشعر برغبة في الرقص.

 

نعم... أريد أن أرقص، أن أملأ الدنيا رقصًا وغناءً وموسيقا.

 

أعددت حقيبتي وأغلقتها، تمر الساعات وأنا أنظر للحقيبة، أفتحها أضيف لها فستانًا أو إيشاربًا، أو لا أضيف شيئًا فقط يريحني أن تكون أمامي أتأملها وتشاركني فرحتي.

 

في المطار وقفت أنتظر أيمن الذي عاد وسيمًا وجذابًا كعادته.

 

سنعيش معًا عمرًا مُشبَعًا بالغرام، بالعذوبة، بالدفء.

 

جلسنا في حديقة الفندق: عيناه ساكنتان وأنا أتطلع إليهما بشوق ونهم.

 

أتأمل وجهه، أحدق بملامحه كأنما أريد نَحْتَها داخل روحي.

 

أتطلع إلى النجمة الصغيرة الخجول في السماء وهي تظهر وتختفي وتعزف موسيقا مُشبَعة بالسعادة، أنغام كونية لا يسمعها سواي.

 

صامت أيمن أريد أن أقول له تكلم، تكلم حتى أشبع من كل حروفك، حتى يكتمل نورك، لكني أتركه، فالصمت له أيضًا جماله وجلاله.

 

يقترب النادل يطلب منه أيمن العشاء بلهجة جافة ونظرة متجهمة، ثم يشير إليَّ أن ننتقل لنأكل داخل الفندق.

 

أيمن ينظر في طبقه. أحاول أن أقطع الصمت فأسأله: وحشك أكل مصر؟

 

يحرك رأسه بالموافقة غلق هاتفي عائدة إلى بيتي بلا ابتسامة.

 

يأتي النادل بكوبين من عصير البرتقال يطلب منه أيمن بلهجة حادة إضافة الثلج، يأتي النادل بالثلج. أبتسم له شاكرة فينظر لي أيمن مندهشًا.

 

ينتهي العشاء الفاتر، يستأذن لإجراء مكالمة تليفونية ضرورية، أبتسم.

 

يمسك هاتفه ثلاثين دقيقة يختفي فيها وجهه الذي أعرفه، صوته الذي أحبه، تنفر عروقه غاضبة، أغمض عينيَّ كأني أسمع صوتًا من وراء قناع، وأشعر أنني أمام رجل لا أعرفه.

 

أنتبه أننا على مدار ثلاث ساعات لم نتبادل إلا كلمات قليلة ليس من بينها كلمة حب. أحس بالبرد.

 

يغلق أيمن هاتفه، يسكت لحظات ثم يتمتم بكلمات لا أفهمها ويسألني: أترغبين في النوم الآن؟ ويضيف بضحكة ثقيلة: شكلك عاوزة تنامي ومكسوفة.

 

نصعد إلى حجرتينا بالفندق، وهو متجهم، أبتسمُ للعامل الذي يحمل حقيبتي، خطواتي حائرة وخائفة.

 

أقف عند باب حجرتي، أترقب نظرة، لا يلتفت إليَّ. أهمس له: تصبح على خير.

 

لا يسمعني، يفتح الباب ويدخل.

 

أقف في الغرفة تائهة، أنظر إلى حقيبة ملابسي، أبتسم مهمومة ومهزومة، أفكر لحظة ثم أرفعها وأخرج.

 

أغلق هاتفي، وأعود إلى بيتي..

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز