د. حسام عطا
شركة الصوت والضوء وشركة أوراسكوم.. رؤية في الاستثمار الثقافي
في متابعتي اليومية لما يدور في الشأن العام المصري استوقفني خبر عابر، عبر بهدوء في زحام فيض كبير من الأخبار خاصة أنه يأتي عبر بوابة الثقة للاستثمار العقاري بمصر بتاريخ منتصف إبريل الجاري 2024.
والخبر لا يمت بصلة مباشرة بصلة للاستثمار العقاري، بل هو خبر ثقافي مهم للغاية، والخبر هو:
"نجيب ساويرس يطور الصوت والضوء بالأهرامات باستثمارات أربعين مليون دولار". وهي عملية استبدال وتجديد لأجهزة الصوت والضوء القديمة بمنطقة أهرامات الجيزة، وتطويرها وذلك تنفيذاً لمناقصة حصلت عليها شركة أوراسكوم بشأن عملية التطوير والمشاركة بالإدارة، والتي أعلنت عنها شركة مصر لعروض الصوت والضوء في سبتمبر 2020، وقد تسلمت أوراسكوم الموقع 2021، وبدأت على الفور أعمال التهيئة والتجديد، واستبدال الأجهزة القديمة بأخرى جديدة استعداداً لافتتاح المشروع.
أما ما لفت انتباهي حقاً فهو تصريح للمهندس نجيب ساويرس عن قرار استبدال النظام القديم للصوت والضوء بعروض جديدة "حاجة تليق بالقرن الواحد والعشرين.. هانعمل عروض مبهرة أكتر من أي مكان تاني.. ولا لاس فيجاس ولا الكلام ده"، كما هو وارد في الخبر المشار إليه.
وهي مسألة تستدعي المشروعات الثقافية الاستثمارية الكبرى المتعلقة بالتراث الحضاري لمصر القديمة وإمكانياته المذهلة.
وقد كان وزير الثقافة المصري الأسبق، وهو الكاتب الكبير الموسوعي د. ثروت عكاشة له في هذا الاهتمام إنجازات وتفكير عميق، بعضه تم تنفيذه على أرض الواقع وبعض تم تأجيله، حتى دخل عالم النسيان.
وبعض من المسؤولين عن الآثار المصرية يخشون العروض الفنية والتجمعات الكبيرة حتى لا تؤثر على صلاحية المكان معمارياً وأثرياً، وهو ما أسهم في ندرة عدد العروض الفنية طوال الخمسين عاماً الماضية، وعدا عروض الصوت والضوء، وعرض أوبرا عايدة في سفح الهرم وفي الأقصر وبعض قليل من المحاولات المحلية، لا نجد عروضاً إبداعية ترقى إلى عظمة وتنوع وخلود الآثار المصرية، إلا أن علماء الآثار في مصر لم يحتفوا بالآثار اللامادية المصرية القديمة مثل احتفائهم بالكشوف الأثرية المادية.
ورغم تنوع وعظمة الآثار المصرية القديمة وعلى رأسها الأهرامات الثلاثة، إلا أن معناها الحضاري الجوهري وسياقهما اللامادي من أدب وعلوم وموسيقى ورياضيات وفنون مسرحية بقى في معزل عن سياقها المادي الواضح الكبير الذي أبهر ولايزال يبهر العالم كله.
ويبقى عرض الصوت والضوء التاريخي لكل من شاهده من كل الأجيال يقص بوضوح قصة الحضارة المصرية القديمة.
وهو عرض في مساره التاريخي منذ بدايته حتى الآن يحمل صفة إبداعية كانت في بداياته ذات طابع تجديدي، إذ تجاوز المادة الفيلمية المصورة المسموعة المرئية، إلى استخدام الأهرامات والضوء بطريقة إبداعية تجعل من الأهرامات هي البطل الذي يتم التركيز على حضوره الباهر الخلاب الذي لا مثيل لجاذبيته.
ولا شك أنه ومع اكتمال الربع الأول من القرن العشرين إلا عاماً واحداً، ومع تطور استخدامات الصوت والضوء تطوراً لا نهائياً في عالمنا المعاصر، وما قدمته التكنولوجيا المعاصرة من إمكانيات كبرى، لهو أمر حاضر بوضوح، ويدعونا لاستخدامه لتجديد الحساسية الفنية لعروض معاصرة في منطقة الأهرامات بالجيزة، إلا أن ذلك لا ينفي أبداً الاحتفاظ بالعرض التاريخي للصوت والضوء، نظراً لكونه قد بات تراثاً تاريخياً مصرياً، خاصة في نسخته العربية والتي يتم سردها بأصوات رموز فنية رمزية تاريخية، وما يمكن تغييره حقاً أجهزة البث للحصول على نتائج تقنية عالية الجودة، تليق بعالم القرن الحادي والعشرين، ولذلك فهي نسخة إبداعية جاذبة ويجب الاحتفاظ بطابعها ومحتواها وحساسيتها المصرية كما نحتفظ بالمنجز الإبداعي للستينيات المصرية في الموسيقى والغناء والمسرح والسينما، التي لم تكن قد عرفت الأفلام الملونة بعد، خاصة أن تلك الإبداعات تحمل طابعاً من الحنين للماضي القريب، ولها في وجدان الجماعة المصرية أثرها الخاص.
إنه أثر جمالي للقاهرة الحديثة الأنيقة في كل ما جاءت به، ولذلك فهذا العرض التاريخي بمحتواه وطريقته الإبداعية يجب للشركة المسؤولة وشريكها المهندس نجيب ساويرس أن يحافظ عليها، إنها شركة الصوت والضوء وهذا هو منجزها الأصلي، أما تحديث تكنولوجيا الصوت والضوء فهو أمر متاح ويجب أن نثمنه.
وفي تقديري أن ذلك التجديد والحفاظ على العرض الأصلي للصوت والضوء لا يمنع بالتأكيد إنشاء برامج وإنتاجات إبداعية حديثة ومعاصرة، وفيما اعتقد أنها ربما لا تصبح مخاطرة إذا ما كانت من عروض الموسيقى المصرية القديمة، أو عروض المسرح المصري القديم، وكان د. ثروت عكاشة لديه مشروع مؤجل هو عرض مسرحية لعبة الرياح الأربعة أول عرض مسرحي دنيوي في التاريخ في منطقة أهرام الجيزة، وهو عرض قام بتأصيل نصه المعاصر أ.د أيمن وزيري أستاذ الآثار المصرية القديمة بالعودة لمتون الأهرام. وكان عكاشة قد شرع مرتين في تنفيذه، مرة مع المخرج الفرنسي الكبير جان لوي بارو، ومرة مع المخرج الإيطالي الشهير زيفاريللي، ولكن حدثت في المرتين أحداث كبرى إقليمياً وعربياً عطلت تقديمه.
وكان عكاشة يطمح لتأسيس فرقة مسرحية منتظمة من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية لتقديم نصوص المسرح المصري القديم، أول مسرح وأول دراما إنسانية عرفها العالم، وربما يقدر المهندس نجيب على تحقيق حلم د. ثروت عكاشة بعد كل تلك السنوات.
وإذ يمكن أن تزدهر منطقة الأهرامات بالعديد من البرامج والمواد الإبداعية ذات الصلة، ومحاضرات وورش عمل ومناقشات بحثية علمية حية قادرة على أن تجذب الملايين من كل أنحاء الدنيا، كي ترى وتسمع وتشارك في الحوار والأفعال الإيجابية ذات الصلة ببعث الحركة والعلوم والآثار غير المادية في الفلك والهندسة وإرادة الإنسان المصري القديم، وهي فرصة كبرى كي تدخل أوراسكوم في مجال الاستثمار الثقافي والإبداعي، خاصة مع وجود اهتمام منتظم واضح بهذا المجال الحيوي لمؤسسة ساويرس الثقافية.
أعتقد أن العروض التفاعلية والصور التي تبث عبر تقنيات معاصرة مسألة آمنة وهي متاحة للحفاظ على جودة منتج نهائي هو مادة مسموعة مرئية يتم بثها تكنولوجياً، أما ما هو مخاطرة حقاً ضمانها الإرادة والإدارة والنظام والأمل، فهي مسألة الفنون الإبداعية الحية الأدائية المتأسسة على الحضور البشري الحي، وعلى رأسها فنون المسرح والموسيقى والرقص المصرية القديمة. وفي هذا نتمنى الكثير ويحق لنا أن نحلم ونتمنى.