د. حسام عطا
حتى لا تطير السيرة الهلالية في الهواء
يجذبني بكل قوة كل ما يمت لفنون شاعر الربابة المصري بصلة.. وقد نظم المجلس الأعلى للثقافة ندوة وسهرة إبداعية بالتعاون مع الهيئة العامة لقصور الثقافة بدت ذات طابع خاص في كل هذا الزخم من الفعاليات الرمضانية والأعمال الدرامية التليفزيونية، التي تشير بتنوعها وثرائها رغم أية ملاحظات عليها إلى غنى وحيوية واقتدار مصر.
ومنذ زمن بعيد يعود إلى عام 1993 عندما أخرجت حفلتي الافتتاح والختام لمهرجان الربابة الدولي في أسيوط، وشاركت مع الموسيقي المحترف المبدع قائد الأوركسترا عبد الحميد عبد الغفار في تأسيس فرقة للرباب هناك، ولا يغادرني هذا الاهتمام بشاعر الربابة وطاقته الإبداعية الملهمة.
وفي بريق عيني أ.د رتيبة الحفني التي ترأست هذا المهرجان الدولي رأيت نوراً إبداعياً وهاجاً لكل عازفي ومبدعي الموسيقى الشعبية في مصر، وسؤالاً حائراً عن إمكانية تطوير ذلك النوع الموسيقي المصري.
ومنذ ذلك الوقت طاردت إمكانية تطوير ما فعلته آنذاك من محاولة ضبط موسيقى نسبي وإضافة لمسات جمالية على ملابس الفنانين الأصلية صممتها آنذاك الفنانة التشكيلية المبدعة فايزة نوار، مع الحفاظ على تلقائية الإبداع وأصالة الملابس الواقعية، إلا أن كل محاولاتي ذهبت أدراج الرياح.
إذ إن فرقة النيل للآلات الشعبية تكاد تكون بغيابها الغامض بعد أن جابت العالم تثير سؤالاً عن معنى ودور وجوهر الثقافة الشعبية في الهيئة المعنية بذلك، وأيضاً غياب إنتاج العروض الفنية الإبداعية عن الفرقة القومية للموسيقى الشعبية بقطاع الفنون الشعبية.
والتي تقدم عروضاً مسرحية ربما تذهب لبعض من تلك الآلات أما ما يغيب عنها فهو جوهر هويتها واختصاصها بكون الفن الشعبي جوهر إنتاجها بشكل علمي متطور، يحافظ على المنجز التاريخي ويطوره فهذا ليس أمراً حادثاً.
وعدا ذلك تتناثر عدد من بقايا فرق الموسيقى الشعبية في أنحاء مصر، متروكة لمصيرها وفقاً لإرادة بعض من الأفراد الفاعلين.
وواحد من هؤلاء العاشقين للفن الشعبي المصري الشاعر والباحث مسعود شومان، وهو الذي نظم تلك الأمسية الرائعة من مساء الأحد الماضي 31 مارس المنقضي 2024، وقد كانت ليلة رمضانية مدهشة في بهو المجلس الأعلى للثقافة وقد صدرت عن لجنة التراث بالمجلس وبكل إخلاص من مقررها أ.د محمد شبانة ورئيس الإدارة المركزية للجان والشعب الثقافية وائل حسين، وأدار الأمسية الشاعر والفنان التشكيلي والكاتب الصحفي محمد بغدادي.
وفيما دار في الندوة حديث لمؤرخ مصري مهتم بنوع نادر من الدراسات العلمية البينية بين التاريخ والسير الشعبية وهو أ.د عمرو عبد العزيز منير الذي يعرف جيداً ذلك الهامش المرهف المشترك بين السير الشعبية على وجه التخصيص، وبين الأحداث التاريخية.
لأنه يعرف أن السيرة الشعبية رسالة مأثورة تحمل وعي وضمير الجماعة الشعبية، وهو تنتقل من المسار التاريخي إذا كان لها أصل تاريخي كسيرة عنترة والزير سالم إلى طريق مفتوح نحو عالم الخيال والأساطير.
وقد أهداني كتابه سيرة فارس العراق.. من زلزل جميع الآفاق وشتت الملوك من الطِّباق الفارس الممارس والأسد المتارِس الملك أسد الفوارس ابن جودر.
وهي سيرة محققة عن نسخة خطية تامة تحتفظ بها جامعة ميتشغان.
وهو يوردها كنموذج من السير المنتهية والمنقطعة، التي لا يرويها أحد من الرواة الآن، إذ بقيت كمخطوط منتهي الأثر منقطع عن الحذف والإضافة وهو ما تتمتع به السير الحية التي لا تزال تروي عبر شعراء الرباب، وهم فيها يعملون الخيال والحذف والإضافة ويمزجون بين الموروث والمستحدث المتجانس مع طبيعتها الفنية.
وربما تجمع الأمسية في إشارتها الدالة إلى سير أخرى منتهية جفت ينابيع سردها الشفاهي، وانقطعت صلتها بالرواة المحدثين.
وهكذا يبدو القلق أمراً واجباً بشأن السيرة الهلالية وما بقي من سير شعبية مصرية تروي حتى الآن.
وبعد الأمسية سألت الشاعر مسعود شومان: ماذا عن الأجيال الجديدة من حملة السيرة الهلالية وشعراء الرباب فقال: هم كُثر وتنجبهم أرض مصر العفية، فقلت وهذه المجموعة من يرعاها؟ قال فرقة خاصة، فعاد لي القلق متذكراً جهد يحيي حقي في مصلحة الفنون والإيمان الإبداعي لزكريا الحجاوي بأهمية الفن الشعبي.
وقلت لا بد من تجديد الدعوة لمؤسسات الثقافة المصرية الرسمية وللمجتمع المدني لرعاية ودعم ونشر الفن الشعبي المصري دعماً كبيراً مستداماً، حفاظاً على المخيلة الشعبية المصرية وضميرها الإبداعي الحي.